أهدانا صديقنا الشيخ السيد المكي هذه الرحلة لأخيه الأستاذ الشيخ السيد محمد الخضر بن الحسين أحد المدرسين بجامع الزيتونة بحاضرة تونس قال حفظه الله تعالى:
اقترح علي جماعة من الفضلاء أن أحرار خالصة من آثارنا رحلتنا الشرقية فعطفت عنان القلم لمساعفة اقتراحهم بعد أن رسمت له الوجهة العلمية والأدبية سبيلاً لا يحيد عن السير في مناكبها ولئن لم يلتقط الناظر منها درة علمية فائقة فإنها لا تخلو من أن تنبسط له بملحة أدبية رائقة وغليك التحرير.
بعث لي باعث على الرحلة إلى بلاد الشام وهو زيارة الأهل وفاء بحق صلة الرحم فامتطيت الباخرة يوم الخميس الرابع من شعبان سنة ١٣٣٠ وعند ما أقلعت من مرساها وأخذت المباني التونسية تتوارى عن أبصارنا أخذ الحنو إلى الوطن يتزايد وحر الأسف لمفارقة الأصحاب يتصاعد حتى أصغيت إلى نفسي وهي تخاطب رائد السفينة بقولها:
حادي سفينتنا اطرح من حمولتها ... زاد الوقود فما في طرحه خطر
وخذ إذا خمدت أنفاس مرجلها ... من لوعة البين مقباساً فتستعر
وإني لأدرك في مثل هذا الموطن دقة نظر أمام الحرمين حين قيل له لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور بقوله لأن فيه فراق الأحبة.
رست الباخرة على جزيرة مالطة عند مغرب يوم الجمعة ولم نر فائدة في نزولنا والليل قد ضرب أطنابه فقضينا ليلتنا على متن البحر وانحدرنا صباحاً إلى المدينة التي هي مقر حكومتها وتسمى (قاليتا) فتجولنا في مناهجها المتناسقة وشهدنا من خطاباتهم كيف تنحط العربية وتندرس أطلال فصاحتها بين الأمة التي تجهل مكانتها وتزهد في تعاليمها إلى أن تلتحم بأخلاط من لغة أخرى فإن لغة أهل هذه الجزيرة عربية محرفة وأكثر ما يتخللها قطع من اللغة الطليانية وإنما انساقت إليها العربية حين استولى عليها أبو الغرانيق محمد ابن الأغلب سنة ٢٥٥.
ويشعرك بانتشار العربية وآدابها بينهم لذلك العهد ما صه المؤرخون من أن ملك مالطة صنع له بعض مهندسي بلده تمثال جارية يتعرف بها أوقات الصلاة وكانت ترمي ببنادق على الصنج (قصاع الأبنوس) فقال أبو القاسم بن رمضان المالطي أحد شعرائها لعبد الله بن السمنطي المالطي وكانت له براعة في صناعة الشعر أجز هذا المصراع