ثم عدنا إلى الباخرة حيث أزف رحيلها وجعلت أنظر إلى زوارقها المزخرفة وهي تحوم حولنا واردة وصادرة فوقع بصري على زورق يطوف به على جوانب السفينة سائل مقعد فأراني إحدى رجليه نحيفة ملتوية فقذفت له مسكوكاً فالتقطه وهو يقول بالسلامة السلامة وحيث لم يتعرض لي قبل هذا سائل في زورق قلت:
عهدت الذي يسعى على متن زورق ... إلى الرزق يدلي نحوه شرك الصيد
وذا قانص في اليم إلى العلا ... حبالة أقوال فتظفر بالقصد
بارحنا مالطة عند الزوال يوم السبت واسترسلت السفينة على بحر صامت ما عدا نسمات لينة تخطر علينا غسق الليل وأطراف النهار حتى قدمت على مرسى الإسكندرية ضحوة يوم الأربعاء فنزلنا منزلاً ألقينا في رحلنا وبعد أن طفئت حرارة الهاجرة خرجت صحبة رفيق يعرف شعاب المدينة إلى أن وافينا باب مسجد فجزته لأداء صلاة الظهر وأثر ما قضيت الصلاة جلس أمام المسجد مستنداً إلى أسطوانة ودنا له طائفة من الناس فقرأ لهم نبذة من كتاب الشفا لعياض مع بعض بيانات تدل على أنه ذو حظ من علوم الدين ثم حان وقت العصر وبعد أن انصرف من صلاتها ألقى علي السلام متعرفاً لأثري وعرض علي المبيت بمنزله في طرف البلد فاعتذرت له بقصر مدة الإقامة وقصد الاستطلاع على مناظر البلد ومعاهدها العلمية.
امتطيت عربة أتت بنا على مكتبتها القائمة بإزاء إدارة البلدية فطالعت صحائف متفرقة من نموذج كتبها ولم يقع بصري فيما طالعته على كتاب نادر يستحق أن نذكره ثم اجتزنا إلى متحف يقال له (عمود السواري) يحتوي على تماثيل عتيقة وعلى عمود قائم ذكر لنا الدليل المكلف باستطلاع الغرباء على المتحف أن ارتفاعه يبلغ ستاً واربعين ذراعاً وذكر المقريزي في الخطط أن ارتفاعه سبعون ذراعاً وقال المقريزي أيضاً ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يدرس به الحكمة.