من القضايا المسلمة التي لا تحتاج إلى مقدمات تبينها. ولا إلى دلائل تثبتها أن العلم حياة الأمم وأنه كلما ازدادت الأمة علماً ازدادت حياة ورقيا. وكلما انتشر الجهل بين أفرادها ازدادت اضمحلالاً وأصبحت على وشك السقوط بين يدي أعداءها. ومن ثم جعل أهل الخير وأصحاب العقول الكبيرة يشيدون المدارس ويعمرونها بالأوقاف لتصرف على إطعام طلبة العلوم وحاجاتهم. وأخذت الحكومات ترغب الناس في طلب العلم بتمييز طالب العلم عن غيره. وما ذلك إلا لجلب الناس إلى العلم. لأن النفوس في الغالب ميالة إلى الانتفاع بأعمالها دنيوياً. وقد سلكت هذا السبيل دولتنا العلية أيدها الله بروح منه فجعلت طالب العلم الديني معفواً من دخول الجندية التي هي من أشرف الوظائف ليتفرغ للعلم الذي هو ضالة الشعوب ونهاج السعادة. وشرطت عليه أن يؤدي الامتحان بعلوم الصرف والنحو والمنطق مدة ست سنوات بحضور هيئة من أهل العلم ورجال الحكومة. ولكنها لم تكتف بأداء الامتحان بل اشترطت ملازمة الطالب للمدرسة آناء الليل وأطراف النهار. مع أنها لو اكتفت بالشرط الأول وهو أداء الامتحان لأحسنت صنعاً. لأن الشرط الثاني وهو الملازمة للمدرسة وإن كان يعقل بالنسبة إلى وقت وضعه يوم كانت المدارس عامرة بالأوقاف التي تصرف على الطلبة ورواتبهم ولكن لا يعقل الآن لأن أوقاف المدارس قد درست واختلسها من لا أخلاق لهم ولا ذمة. فكان من الواجب إلغاء الشرط الثاني أو تعيين رواتب لهم تقوم بأود حياتهم وإلا أفضى الأمر بطالب العلم إلى أن يقعد في المدرسة يتسول الناس أو يترك طلب العلم بتاتاً وهذا مما يضعف العلم الذي يراد شيوعه وكثرته.
هل تتصور الحكومة أن طالب العلم من الملائكة فيكون طعامه وشرابه التسبيح. أم لا ترى عاراً أن يكون طلاب العلم ورجال الدين عالة على الناس فيما يحتاجون إليه من طعامهم ولباسهم وأداة دروسهم. أم ماذا؟
هنا يقف الإنسان مذهولاً خصوصاً حينما يسمع من بيده أمر الطلبة يضيق عليهم ويتشبث بأنه لا يجوز للطالب أن يحترف بصناعة أو تجارة أو كسب ما من أنواع الاكتساب المباح في الشرع. على أننا لو قطعنا النظر عن هذه الأمور كلها ورجعنا إلى السلف الصالح من العلماء الذين ملأوا طباق الأرض علوماً لوجدناهم كانوا يشتغلون بحرف متنوعة.
هذا أبو حنيفة رضي الله عنه كان خزازاً يبيع الخز ويتجر به. ولم يقطعه اكتسابه عن