لم يبق ريب بنيات دول أوروبا نحو دولة الخلافة بل نحو سائر الدول الإسلامية. فقد برح الخفاء وظهر الصبح لذي عينين. واتضح أن ما يتشدق به أعاظم رجال الحكومات الأوروبية من محبة العدل وكراهية الظلم والعطف على المظلوم والأخذ بيده ليس في الحقيقة إلا من الدعاوي التي لا يستطاع التصديق بها ما دمنا نرى كل يوم برهاناً جديداً ينقض هذه الدعاوي الباطلة. وإلا إذا كانوا على ما يزعمون من المبادئ الفاضلة. وحب الإنسانية لذاتها أو النفور من الجور والتعدي فلماذا تشب هذه الحروب وتضرم هذه النيران وتذهب أرواح بني الإنسان ضحية الطمع والهمجية وهم ساكنون.
تشب هذه الحرب الهائلة، وتذهب تلك الأنفس البريئة وفي إمكان أصحاب هذه المزاعم الموهومة منعها أو عدم حدوثها وهم لا يفعلون ثم لا يخجلون من ادعائهم أنهم رسل المدنية ومحبو الإنسانية ورافعوا أعلام العدل ومثال الأخلاق الفاضلة والكمال المجسم إلى آخر ما يتبجحون به ويوافقهم عليه زمرة من ضعاف الأحلام وعشاق الأوهام. فمن اكتفوا ببهرج المدنية الظاهرة عن الوصول إلى الحقائق الواضحة. والبينات الراجحة. وما عهد الحرب الطرابلسية ببعيد. فقد اتفقت كلمة العقلاء على استهجان احتلال الطليان لطرابلس بدون سبب ما يوجب ذلك إلا حب الاستعمار وتوسيع الممالك وقام بعض أرباب العقول المستنيرة من الغربيين يقبحون هذا العمل الممقوت ويحضون حكوماتهم على مساعدة العثمانيين فألبت تلك الحكومات أن تسمع نداء الحق حتى انتهت هذه الكارثة على ما لا يرضى به محبو العدل والإنسانية.
وإن أردت دليلاً ثانياً على بطلان ادعائهم حب العدل والإنسانية فها هي الحرب البلقانية التي شبت نارها. وحمي وطيسها. ولم تتحرك همة دولة من الدول العظمى لمنع حدوثها مع إمكان ذلك. وأعظم منه وأغرب أن دولتنا العلية العثمانية على أثر الانكسارات التي حصلت أثناء هذه الحرب المشئومة طلبت من الدول العظمى التداخل في الأمر وتوقيف الحرب فلم يرق في أعينهم حسم مادة البغي والظلم وحقن الدماء. فأجابوا بأن تكون المخابرة مع الدول المحاربة رأساً. ولو كان الأمر على العكس وكان هذا الطلب من دول البلقان المتحالفة على أثر انكسار أصابهم أو فشل لحق بهم لكان الجواب بالإيجاب ولحرمونا من ثمرات انتصارنا كما فعلوا في الحرب العثمانية اليونانية فإنه بعد انكسار