للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الدين الإسلامي والتوحيد]

النشر والحشر

قدمنا أن أرباب الملل والشرائع كافة وجمهور المحققين من الفلاسفة متفقون على حقيقة المعاد وإن اختلفوا في كيفيته إلا شرذمة الطبيعيين الذين تولاهم الغرور وغشيهم الضلال وزعموا أن لا بعث ولا حشر وأن الإنسان مثل نبات الأرض ينبت ثم يزول لا إلى رجعة وليس له حظ في وجوده إلا لذاته الحيوانية التي ينالها مدة حياته وهو قول باطل لا يعتد به من وجوه أنه قد ثبت بالبراهين القاطعة وجود إله العالم واتصافه بالصفات الكاملة وسمو حكمته وعدله في خلقه ورحمته لهم ولا مرية في أن كل معتقد لذلك يظهر له أنه من حكمته تعالى وعدله بعد أن خلق الخلق ومنحهم عقولاً يميزون بها بين الحسن والقبيح وقدراً بها يقدرون على الخير والشر أن يربط عمل الخير بالثواب وعمل الشر بالعقاب وكل من الثواب والعقاب غير حاصل في دار الدنيا فلا بد من دار أخرى يحصل فيها ذلك (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) ولا يكفي في ذينك الردع والترغيب ما أودع الله من العقل من تحسين المحسنات وتقبيح المنكرات لما عرفت أن العقل لا يستقل في معرفة كثير من الأمور ولأن العقل وإن كان داعياً للإنسان في فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوانه إلى الانهماك في الشهوات واللذات فإذا حصل التعارض فلا بد من مرجح قوي آخر وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد والثواب والعقاب على الفعل والترك.

إن صريح العقل يقضي أن من حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء وحصول هذه التفرقة ليس في هذه الدار لأنا نرى كثيراً من أهل الإساءة في أعظم الراحة وكثيراً من أهل الإحسان بالضد من ذلك فلا بد أن يكون بعد هذه الدار دار أخرى تحصل فيها تلك الفرقة.

إن السلطان إذا كان قادراً حكيماً مشفقاً على الرعية والخدام وجب عليه أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القوي وإن ترك ذلك كان راضياً بالظلم والرضا بالظلم لا يليق بمثل هذا السلطان ولا شك أن الله تعالى كامل في صفة القدرة والرحمة والشفقة منزه عن الظلم والعبث فلزم أن ينتصف لعباده المظلومين من الظالمين وهذا الانتصاف لا يحصل غالباً في هذه الدار لأن الظالم يبقى في غاية العزة والقدرة والمظلوم في مزيد من الإهانة والمذلة

<<  <  ج: ص:  >  >>