تختلف العادات والأخلاق بين الأمم باختلاف الأقاليم والبلاد فما يستحسنه قوم من العادات يستقبحه آخرون ولو أمعنا النظر في عادات البلاد لوجدنا لكل بلدة عادة تمتاز بها عن الأخرى وبهذه المناسبة يجدر بنا أن نبحث قليلاً عن تأثير التمدن الحالي في أخلاق الأمم وهو بحث طالما تاقت النفس إليه ثم وجمت عنه لصعوبته - فنقول ليس التمدن في قوم إلا حصولهم على أسباب السعادة في الحياتين المادية والمعنوية وكان للمؤرخ ابن خلدون العمراني الشهير بحث في أسباب انحطاط الأمم بعد رقيها وتكلم على انقراض الدول بعد نجاحها فقال ما معناه: متى صارت الدولة غنية وتوفرت لديها وسائط الدعة والراحة مالت بكليتها للسرف والبذخ وانهمكت في الملاذ وفسدت أخلاقها فلا تلبث أن تضمحل وتنقرض هي وحضارتها:
هذه القاعدة الاجتماعية كانت تنطبق على أحوال الأمم ودولها في زمن المؤرخ وقبله أما الآن وقد كاد التمدن يعم أقطار الأرض فلا سبيل للانقراض والاضمحلال سيما وأن كل دولة من الدول الحاضرة قد أعدت العدد الكاملة لصيانة حقوقها وحفظ كيانها بين الهيئات الاجتماعية وصار لها حظ وافر من الرقي المادي والمعنوي وقسط عظيم من التمدن والحضارة.
(اللهم إلا بعض الدول الشرقية الغارقة في سبات الخمول والكسل ثم يوجد بين الدول المتمدنة روابط اجتماعية وعهود ومواثيق دولية يكفل لكل واحدة منها صيانة حقها في الغالب قلنا في الغالب لأن حقوق الدول لم تبن في الحقيقة إلا على أساس (الحكم لمن غلب) فالقوة إذاً هي التي تصون حق الدولة من أن يعبث به وتحفظ لها كيانها بين الدول ولما كانت قوات الدول الآن تكاد تكون متقاربة إن لم نقل متكافئة امتنع حينئذ تغلب دولة على أخرى وابتلاعها بتاتا كما يجري في القرون الأولى.
بقي علينا قضية الانهماك في الملاذ وفساد الأخلاق فهذه القضية لا تزال مسلمة في كل عصر وفي كل أمة فالبلاد التي توفرت فيها أسباب العمران والحضارة وزادت ثروتها وتنوعت موارد الارتزاق والكسب فيها كثرت فيها ترايضاً الملاهي وانهمك سكانها في