قد أرشدنا البرهان إلى أن الله تعالى هو الخالق للكون لا عن مادة استمدها والصانع له لا بآلة استعملها والقيوم الذي لا تشغله الشؤون والقدير الذي لا تؤوده المعضلات ولا تعيبه المشكلات خلق فأحسن، وأسس فأتقن وبرأ البرايا صنوفاً وضروباً، وقسمها فرقا وشعوبا، ونظم الكون ورتب مصالحه العظمى إلى أكمل إتقان حسبما خصصت إرادته واقتضت حكمته (خلق كل شيء فقدره تقديراً).
هنا لا نريد أن نسوق البراهين الدالة على وحدانيته تعالى وانفراده بالخلق والإيجاد، وتنزهه عما شاكل مخلوقاته وعلوه عن كل ما يخطر بالبال، إذ الكون بجملته وتفصيله يدل على هاتين العقيدتين دلالة واضحة لا تحتاج لإحالة نظر وإعمال فكر وقد أشبعنا الكلام على ذلك في بحث الوحدانية وإنما الغاية التي نريدها هنا أن نبين مقصدين الأول أن كل ما يشاهد في الكون هو مخلوق لله تعالى وحده وأن ما ينسب إلى العباد من الأفعال والحركات هي نسبة مجازية (الله خالق كل شيء)(والله خلقكم وما تعملون) المقصد الثاني أن أفعال الله تعالى من خلق ورزق وإحياء وإماتة وتنعيم وتعذيب وإعطاء ومنع كلها محكمة ملقنة صادرة عن علم وإرادة واختيار مشتملة على حكم ومصالح لعباده ليست أسبابا باعثة على إقدامه ولا على مقتضية لفاعليته حتى يلزم استكماله بها فليس من أفعاله تعالى ما يكون واجبا عنه لذاته بحيث يصدر عنه بالعلية المحضة والاستلزام الوجودي إذ هو الفاعل المختار المتصرف في ملكه بما يقتضيه كمال ربوبيته وبالغ حكمته وليس من مصالح ما يجب عليه مراعاته وجوب إلزام بحيث لو لم يراعه لتوجه عليه اللوم إذ هو المتفضل بالخلق والإبداع والمتطول بالإيجاد والاختراع والوجوب عليه يستدعى القهر والتكليف (وهو القاهر فوق عباده).
فلا يلتفت إلى قول المتهورين الذين يزعمون أنه يجب على الله تعالى رعاية المصلحة في أفعاله وتحقيق وعيده فيمن تعدى حدوده وأن أفعاله تعلل بالأغراض إلى غير ذلك من شطحات الظنون ونزعات الأهواء التي ينزه مقام الإله عن نسبتها إليه.