أثبتنا آنفاً أن الله سبحانه امتن على عباده ببعثة سيد الرسل صلى الله عليه وسلم لينقذهم مما كانوا فيه من ظلمات الغي والغواية، والجهل والضلالة ويهديهم إلى صراطه الأعدل، ومنهاجه الأقوم، وأيده بما يدل على صدق نبوته، وتحقيق رسالته من المعجزات الباهرات، والآيات البينات مما تتقاصر العقول دون الإحاطة بمنتاها. فكان عليه الصلاة والسلام أكثر الرسل معجزة، وأبهرهم آية، وأظهرهم برهاناً، وأوضحهم محجة وتبياناً.
أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم وأظهر آياته معجزة القرآن العظيم المتحدى به أنزله الله عليه في عصر اشتهرت رجاله بالفصاحة، وتوفرت فيهم مادة البلاغة، وأوتوا من ذرابة اللسان، ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب، ما يبهر الألباب، ومن البداهة ما يقضي بالعجب العجاب، فكان منهم البدوي ذو اللفظ الجزل، والقول الفصل، والطبع الجوهري، والمنزع القوي ومنهم الحضري ذو البلاغة البارعة، والكلمات الجامعة، والطبع السهل والتصرف في القول، فما استطاع أحد معارضته، ولا حام حول محاكاة أقصر سورة من سوره بل أخرس بفصاحته فرسان البلاغة، وقادة الخطابة، وسادات القوافي، وملوك البيان، مع حرصهم على معارضته، والتماسهم الوسائل التامة لمتناقضته (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).
كتاب حوى من الإعجاز مارد كل جاحد وصد كل معاند وسجل العجز على كل مكابر من بلاغة ألفاظه واستيفاء معانيه وحسن نظمه العجيب وأسلوبه الغريب المخالف لأسلوب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها انطوى على علوم لا يحيط بكنهها بشر ولا يطمع في إصائها مخلوق واستمل على أخبار القرون الخالية وقصص الأمم السالفة والأخبار بضمائر القلوب التي لا يصل إليها إلا علام الغيوب وهو مع اتساع مجاله في كل فن من أخبار وأحكام ومواعظ وأمثال وأخلاق وآداب وترغيب وترهيب وتحذير من قبائح السجايا ومواقع الدنايا وتدبير السياسات ومراعاة الأوداء ومدافعة الأعداء ومجادلة الأخصام وتبكيت الطغام وإقامة