لا تجد إنساناً تمتع بمواهب الإدراك في مجال حياته، وتحلى بخصائص الشعور في ميدان وجوده إلا وقد أحس بما طرأ على المسلمين من الحوادث الكبرى والكوارث المجتاحة التي انقضت عليهم من أفق المحن وعالم الرزايا فأحاطت بهم إحاطة السوار بالمعصم، والربقة بالعنق، وأخذت تطوح بهم في متاهات التقهقر ومهامه الانحطاط وترشقهم بسهام الشدائد وقذائف الأهوال. تدك صروح مجدهم التي شيدها أسلافهم وتهدم عروش عزهم التي أقامها آباؤهم وتقوض دعائم سؤددهم التي أسسها رجال دينهم حتى أصبحوا وقد تبدلت شجاعتهم جبناً وصلابتهم خوراً وقوتهم ضعفاً وشوكتهم مهانة وجرأتهم خوفاً فكأنهم خلق جديد لا قبل لهم بالذود عن حياضهم ولا الدفع عن حوزتهم ولا يستطيعون مكافحة ما يكنفهم من مكايد العدو ودسائسه ولا يقدرون على مصادمة ما يعتورهم من عوامل التأخر ومهلكاته.
طرأ عليهم داء أوقفهم عن سيرهم الطبيعي وأقعدهم عما تندفع إليه الرغبة من السعي وراء تقدمهم باستعمال الوسائل في إعزاز كلمتهم وتوسيع نطاق سلطنتهم والهيمنة على كل من قام يجاريهم في معترك هذه الحياة.
داء طالما كانت عقلاء الأمة ونصحاؤها تحذر من وقوعه وتنبه الأمة للتيقظ من مباغتته على حين غفلة من الأخذ بأسباب مدافعته حتى ألمَّ بها وهي في مراقد سباتها (ولا ينفع حذر من قدر).
شعرت النفوس كلها على اختلاف إحساسها بهذا الداء الذي سرى إلى سائر طبقاتها سرياناً عجيباً فأحدث فيها أموراً عديدة ضعفاً في قوتها الحيوية، وهناً في هيئتها الاجتماعية، خوراً في عزائمها الأدبية، ارتخاءً في روابطها الدينية، انحلالاً في عرى وحدتها المالية، إلى غير ذلك مما يدمي العيون أسىً ويمزق الأفئدة أسفاً واليوم خرجت من دور الغفوة إلى دور اليقظة فجعلت تتألم ولم تعرف من أين تسرب إليها الداء وتئن ولم تهتد إلى الدواء وتشكو ولكن إلى غير طبيب وتسير ولكن على غير هدى وتتحرك ولكن بغير نظام.
نعم كل ذلك كائن وليس من الصعب وصف عوارض العلة والإشارة لجهات الألم ومراكز السقم وإنما الصعب البحث عن تعيين العلة التي نشأ عنها هذا الألم وعن أسبابها وتحديد عواملها فإذا تعينت العلة وتحددت العوامل أمكن مكافحتها بأسلحة العلاج وحصر نفوذها في دوائرها وأخذ المسارب عليها من كل جهة حتى لا تتعدى حدودها وتبلغ نهاية استشرائها.