يظهر للباحث الخبير بأحوال الأمم في صعودها وهبوطها أن داءنا العام الشامل لجميع أفراد الأمة هو الجهل بأحكام الدين والتساهل في نشر تعاليمه وسببه ما نحن فيه الآن من الافتتان بمدنية أوروبا وعلومها وإلحادها وليس بهذا الافتتان معنى إلا ما حل بنا من تحلل عناصرنا وتفرق كلمتنا وتخاذلنا وتخالفنا عمّا يأمرنا به الدين.
أثرت عوامل المدنية على العواطف فحولتها وعلى المشاعر فثلمتها وعلى المدارك فضللتها حتى إلتاثت أكثر العقول بأقذارها وتسممت بسمومها فلذلك ترى غوائلها آخذذة كل يوم في الانتشار ضاربة أطنابها باسطة قبابها والناس يموجون في دياجيرها ويسبحون في زخارفها.
ساورتنا هذه الفتنة من كل مكان من جهة العقائد ببث الشبه المستعصية والإشكالات الواهية التي تبعث سفهاء الأحلام على نبذ المعتقدات ظهرياً وجعلها نسياً منسياً.
ساورتنا من جهة الدين فنفثت في روع الشبيبة أن الدين باعثه الجهل ومادته العماية عن حقائق الكون وأن الأمم الأوروبية قامت وحدتها بمنابذة الدين وأشياعه وتشتيت شمل أتباعه حتى دخل في فكر بعضهم أن الأديان الموجودة هي عبارة عن حوادث تاريخية استلزمتها أدوار خاصة وقد أدت وظيفتها وأخذت في الانحلال.
ساورتنا من جهة العلم فأكسبت عقول الشبان ما حال بينهم وبين أنوار الحق من العلوم الإلحادية التي كانت نتيجتها الجري وراء مناصبة الدين وأهله العداء ومصاولة علماء المسلمين والحط من كرامتهم (وكفى بأمة خزياً أن يكون دينها وعلماؤها عرضة لطعن الطاعنين وهدفاً لسهام الملحدين).
ساورتنا من جهة الأخلاق والعادات فنشرت بين الأمة أخلاقها السافلة وعاداتها السيئة بصورة روجتها على بعض الأذهان وطلتها على خفاف الأفئدة فانخدعوا بها وهاموا بتقليدها ومحاكاتها وغالوا في التحكك والالتصاق بما تهواه الأنفس من البذخ والترف والهرع إلى معاهد اللهو والطرب ومجامع الرقص والخلاعة تمتعاً بقانون الحرية وتمسكاً بالعادات الأوروبية.
ساورتنا من جهة الزي بمموهات زينتها وزخارف مخترعاتها بما يأخذ بالألباب من تلوين الأواني وتزويق الألبسة والتفنن في صنوف الزينة.