(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
دلت الآيات وشهدت الآثار أن الأمة العربية كانت قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الدين والعلم وطرق الوصول إليهما في جاهلية جهلاء، وغواية عمياء، لا دين يهذب طباعهم، ولا رابطة تجمع كلمتهم دأبهم الحروب وشن الغارات، وديدنهم التعدي والبغي وسفك الدماء، إن شارفتهم مكن جهة الاجتماع رأيتهم على غاية من الهمجية لا عهد لهم بنظام ولا استعداد لهم لؤآم وإن لحظتهم من وجهة العلم وجدتهم على نهاية من الجهالة والضلالة، وقد انقسموا إلى قبائل شتى، وشعوب عديدة، كلها متوارثة الأحقاد متأصلة الضغائن، والسبب في ذلك أنه لما طال بهم الأمد وبعدوا عن زمن النبوة خيم عليهم الجهل، وعصفت عليهم عواصف الغواية وأعاصير الأهواء وجروا على شهوات أنفسهم، واتبعوا كل ناعق، وفسدت أخلاقهم حتى كانوا يقتلون بناتهم تخلصاً من وصمة العار أو خشية الإملاق. ومنهم من بلغ به الحمق وسخافة العقل فصنع صنماً من الحلوى ثم عبده فلما اشتد به الجوع أكله.
وبالجملة كان جو العالم الأرضي متلبداً بسحب الاضطرابات والأباطيل فكان من رحمة الله وكمال لطفه بأولئك الأقوام أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم أزكاهم محتداً وأرجحهم عقلاً وأوفرهم علماً وأقواهم يقيناً وعزماً وأشدهم رأفة ورحمة. اصطفاه لحمل أمانته والقيام بتبليغ أمره ونهيه يردهم عن غوايتهم ويوقظهم من غفلتهم ويبين لهم ما اختلفت عليه عقولهم. يجمع شتاتهم ويرأب صدعهم، يصلح خللهم ويقيميهم على الصراط الأعدل والمنهج الأقوم.
أرسل الله خاتم أنبيائه إلى الناس كافة في الحين الذي بلغ فيه جوهر الإنساني نموه وتبينت أشخاص الفضائل والكمالات وذلك عند ما بلغ من العمر أربعين سنة يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان ولم يكن في عصره من قاربه في فضله، ولا من داناه في كماله