فشت في الأمة هذه الخصلة الذميمة الربا فشواً هائلاً، وانتشرت بين عامة طبقاتها انتشاراً غريباً، حتى غلبت عقودها في المعاملات العقود الصحيحة، وعد تعاطيها من أنجح الأعمال، لا جرم تعطلت أصول المكاسب، وطمست كنوز الثروة، وافتقرت البلاد، وتوفرت أسباب خرابها.
إن موارد الارتزاق محصورة في التجارة والزراعة والصناعة وتربية المواشي ولا من متجر أو صانع أو زارع أو مرب للماشية إلا وقد أضر به الربا وألصق به خسارة جسيمة.
بينا ترى التاجر يتأفف من كساد سلعته، وقلة ربحه، وكثرة ديونه وتضييق مداينيه، ترى الصانع يئن من عدم رواج صنعته ويشكو فقره وفاقته، ولا تنتهي إلى الزارع إلا وتجده كالأنعام المسخرة والبهائم المذللة. يجدّ عامه كله في حرث الأرض وقلبها. وبذر البذر وتعهده ولا يحصل من العيش إلا القوت الضروري، ومن الثياب غير الخشن البالي وإذا أمعنا النظر في حال مربي الماشية نجده الرجل الذي كتب عليه الشقاء، وسجل عليه العناء مما يلاقي من أخطار سكنى البادية ومخاوفها، وما يجد من نصب رعي الدواب وتربيتها، وما يعاني في حلب الضرع واستخراج الزبد منه وما يكابد في جز الصوف وقطعه ثم هو بعد ذلك لا يجد من القوت إلا ما يسد الرمق ومن الثياب إلى ما يستر العورة.
هذه حال البائسين شغل شاغل، وعناد دائم، وشقاء مستمر، وفائدة قليلة فما السبب في ذلك يا ترى؟
أليس من أقوى الأسباب المفضية إلى ذلك شيوع الربا بين طبقات الأمة وتهاونها بأمره؟
نعم إن تعاطي الربا من أقوى الأسباب على ضعف التجارة والصناعة والزراعة وتربية المواشي، وهو من أكبر العوامل على بلوغها تلك الدرجة من الانحطاط.
أضر الربا بالتجارة فأقعد عنها أكثر المثرين الذين هم أهلها. ولا تقوم إلا بهم. صرفهم عن كبير فائدتها بما عللهم من منفعة قليلة من طريق خبيث. وسلط عليها غير أهلها، ومن لا يحسنون القيام بها، فأودى بفراغهم، وذهب بجميع ما يملكون.
أضر الربا بالصناعة حيث أفقدها من يعمل على تحسينها وتنميتها وباعد بينها وبين من يضرب آباط الإبل لترويجها في سائر البلاد.
أضر الربا بالزراعة وتربية المواشي فأثقل كاهل أهليها بما حملهم من أعباء ظلم المرابين