إن الفطرة الإنسانية قاضية على بطلان ما ذهب إليه الماديون بدليل أنك ترى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير فلو كان الإنسان يفنى بالكلية بعد موته كما يزعم الماديون لكان التصدق عنه والدعاء له عبثاً فاتفاق طوائف العالم يدل على أن فطرتهم شاهدة بأن رأي الماديين باطل فإذ ثبت ذلك وجب الإيمان باليوم الآخر والاعتقاد بالحشر والنشر.
ثم إن الذي يحشر إنما هو الأرواح والأجسام معاً وبيان ذلك أن النفس جوهر باق بعد فساد البدن فإذا أراد الله حشر الخلائق يتعلق بالبدن مرة ثانية ويتصرف كما كان في الدنيا وقد دل العقلب على أن سعادة الرواح بمعرفة الله سبحانه وتعالى ومحبته وأن سعادة الأجسام في إدراك المحسوسات والجمع بين هاتين السعادتين لا يمكن في هذه الحياة لأن الإنسان إذا استغرق في تجلي أنوار عالم الغيب لا يمكن أن يلتفت إلى اللذات الروحانية وإنما تعذر الجمع لكون الأرواح البشرية ضعيفة في هذا العالم فإذا فارقت بالموت واستمدت من عالم القدس قويت وكملت فإذا أعيدت إلى الأبدان مرة ثانية كانت قادرة قوية على الجمع بين الأمرين ولا شك أن هذه الحالة أقصى مراتب السعادة وأنكرت الفلاسفة الحشر الجسماني وزعمت أنه لا تحشر إلا الأرواح وهو زعم باطل لوجوه:
أولاً: إن من تدبر في هذا العالم تدبراً صحيحاً وجد أموراً كثيرة تشبه الحشر وتدل على إمكانه أولها المني فإنه فضلة الهضم الرابع ومادته إنما تولدت من الأغذية المأكولة وهذه الأغذية تولدت من الأجزاء العنصرية وهذه الأجزاء كانت متفرقة في أطراف العالم ثم جمعها الله تعالى فتولد منها حيوان أو نبات فأكله الإنسان فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه فتولد منها أجزاء لطيفة فكانت هذه الأجزاء متفرقة في أطراف الأعضاء كالظل المنبث ولهذا تشترك الأعضاء كلها في الالتذاذ بالوقاع ويحصل الضعف والفتور في جميع البدن عند انفصالها ثم سلط الله تعالى قوة الشهوة حتى جمعت مقداراً معيناً من تلك الأجزاء الطلية في أوعية المني ثم أخرجها ماء دفقاً إلى قرار الرحم فتولد منه إنسان فالأجزاء التي تولد منها بدن الإنسان كانت أولاً متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء ثم اجتمعت بالطريق المذكور فتولد منها هذا البدن فإذا مات تتفرق على مثال التفرق الأول فالقادر