للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دحض شبهة أهل التعطيل]

فالشبهة التي يعتمد عليها جميع فرق أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة هي أنهم يقولون: يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتجسيم، والأجسام تتشابه، والله ليس له شبيه ولا مثيل، والأشاعرة يقولون: يلزم من إثبات الصفات -عدا الصفات السبع- التشبيه والتجسيم، والمعتزلة يقولون: يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتجسيم، بخلاف الأسماء، فإنه لا يلزم منه التشبيه أو التجسيم عندهم.

والجهمية يقولون: يلزم من إثبات الأسماء والصفات جميعاً التشبيه والتجسيم؛ لأننا لا نرى متصفاً بهذه الصفات أو مسمى بهذه الأسماء إلا وهو جسم، والله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، لكنهم عموا عن آخر الآية: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، وهذه طريقة أهل البدع، فإنهم يقولون ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر، فأخذوا بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] وعموا عن قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].

ولما أصلوا هذه الشبهة واعتمدوا عليها، ثم جاءت النصوص في إثبات الصفات صاروا مترددين بين أحد أمرين: إما أن يسلكوا مسلك التفويض، وإما أن يسلكوا مسلك التحريف، وهذا يسمونه تأويلاً، والتفويض معناه: أن يسكتوا عن تفسير معناها ويعتقدوا أنها ليس لها معنى، ويفوضون المعنى إلى الله، فيقولون: لا نعلم معناها، فالعلم والقدرة والاستواء لا نعلم معناها، وطريقة التفويض هذه نسبوها إلى السلف زوراً وبهتاناً، والصحيح أنها ليست طريقة السلف، فالسلف يعرفون المعنى، وهؤلاء يفوضون ويقولون: لا نعلم معناها، فلفظ (استوى) والعلم والقدرة والسمع مثل الحروف الأعجمية، فكما أن العربي لا يفهم معنى الحروف الأعجمية فكذلك لا يفهم معنى (استوى) والقدرة والعلم والسمع والبصر إلى آخر الصفات.

وهذه الطريقة يسمونها طريقة التفويض، وهي باطلة؛ لأنها ليست طريقة السلف، وطريقة السلف هي إثبات المعنى وتفويض الكيفية، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن الاستواء قال: الاستواء معلوم -أي: معلوم معناه في اللغة العربية- والكيف مجهول، يعني أن الكيفية مجهولة، فلا نعلم كيف اتصف بهذه الصفة، فهذا هو الذي نفوضه إلى الله.

ولهذا فسر العلماء الاستواء بالاستقرار والصعود والعلو والارتفاع، لكن كيفية استواء الرب أمر مجهول، وهو الذي نفوضه؛ لأنه لا يعلم كيفية الاستواء إلا هو، ولا يعلم كيفية النزول إلا هو، ولا يعلم كيفية العلم إلا هو، ولا يعلم كيفية القدرة إلا هو، وهكذا يقال في جميع الصفات، فالصفة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، لكن هؤلاء سلكوا مسلك التفويض، فهم يفوضون المعنى لا الكيفية، وهذا غلط.

الطريق الثاني: طريق التحريف، وهم يسمونه تأويلاً، وهو أن يخترعوا للصفات معاني يبتدعونها من عند أنفسهم، فمثلاً صفة اليد قالوا: معناها القدرة، والرحمة معناها: النعمة، والرضا معناه: الثواب أو الإنعام، والغضب معناه: العقاب، وهكذا، فهذه طريقة التحريف الذي يسمونه تأويلاً.

ويقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وقصدهم بطريقة السلف طريقة التفويض، وهذا من أبطل الباطل، فليست هذه ولا تلك طريقة السلف، بل طريقة السلف هي إثبات معاني الصفات، فهم يثبتونها، وإثباتهم لها على ما يليق بجلاله وعظمته، ويقولون: كيفية الصفات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، فنحن نقطع ونجزم بأن لله صفات لكنها صفات لا تشبه صفات المخلوقين، فنحن نثبتها لله ونعلم معناها، لكن لا نعلم الكيفية هذه هي الشبهة التي يعتمد عليها أهل البدع، وقد رددنا عليها تفصيلاً، فقد رددنا على الجهمية، ثم على المعتزلة، ثم على الأشاعرة.

وهناك جواب إجمالي -وهو نافع ومفيد- على هذه الشبهة التي يعتمد عليها جميع فرق المعطلة، وهو أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الصفات، وأثبت لنفسه الأسماء، وكذلك أثبتها له رسوله، وفي المقابل نفى عن نفسه المشابهة والمثل فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤] وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥].

فالله تعالى نفى عن نفسه المشابهة والمماثلة، فلو كان يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتمثيل لما أثبتها تعالى لنفسه، فالقرآن والسنة أثبتا الصفات، ونفيا التمثيل والتشبيه.

ومع نفيه سبحانه عن نفسه المشابهة أثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] فهنا نفى عن نفسه المماثلة، ثم أثبت لنفسه الصفات فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤] فنهى عن ضرب الأمثال له، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٧٤]، فأثبت لنفسه العلم.

فلو كان نفي المماثلة يستلزم نفي الصفة لما أثبت الله الصفة لنفسه، وللزم من ذلك التناقض في كلام الله وكلام رسوله، وحاشا أن يكون في كلام الله تناقض، فالله ينفي عن نفسه المماثلة ويثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فلو كان إثبات الصفة تمثيلاً للزم التناقض في كلام الله؛ لأنه القائل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] فهذا نفي المماثلة، وقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ومن المعلوم أنه ليس هناك شيئان في الوجود إلا وهناك قدر مشترك بينهما، فيشتركان في مسمى الشيء، ووجوده في الذهن، فكل شيئين في الدنيا بينهما اشتراك في الذهن يشتركان فيه، لكن متى يكون هذا الاشتراك؟! يكون عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا لا يلزم منه المشابهة والمماثلة في الخالق، فليس هناك شيئان إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه في الذهن، فهناك تشابه لا بد منه في الذهن، ومن نفى التشابه فقد نفى وجود الله، ونفى صفاته، كما قرر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في رسالته: (الرد على الزنادقة)، وكما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، فمن قال: إن الله لا يشبه المخلوقات بوجه من الوجوه فقد أنكر وجود الله، بل هناك وجه تحتمله المشابهة، وهو القطع عن الإضافة والتخصيص في الذهن لا في الخارج، وهو مسمى الشيء والوجود.

فكلمة (شيء) وكلمة (موجود) تشملان الخالق والمخلوق، فالله شيء، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:١٩] والله موجود، والمخلوق شيء، وهو موجود، فهذا اشتراك في الذهن وليس في الخارج، ويزول هذا الاشتراك عند الإضافة والتخصيص، فنقول: وجود الله، ووجود المخلوق، فينتهي الاشتراك، فوجود الله أكمل من وجود كل موجود، ووجود المخلوق ناقص مسبوق بالعدم، وأيضاً يلحقه النقص من النوم والموت، بخلاف وجود الخالق سبحانه.

إذاً: فليس هناك شيئان إلا وهما يشتركان في مسمى الشيء ووجوده، فلفظ (موجود) لا يلزم منه الاشتباه في مسمى الأمر ووجوده الذي هو أمر ذهني، ولا ينسحب هذا الاشتباه إلى الاشتباه عند وجوده في الخارج، وهذا هو أصل بلاء المعطلة الذين ظنوا أن الاشتباه الذي يكون في الذهن في مسمى الشيء والوجود ينسحب إلى المماثلة في الخالق، وهذا باطل.

فالعرش والبعوضة والفيل تشترك في مسمى الشيء ووجوده، فالبعوضة شيء، والعرش شيء، والفيل شيء، فهل يقول عاقل: إن اشتراك البعوضة والفيل أو العرش في مسمى الشيء والوجود يلزم منه الاشتراك في الصفات؟ لا يقول بذلك أحد، وهذا عند القطع عن الإضافة والتخصيص، لكن إذا قلت: وجود الفيل، ووجود البعوضة، ووجود العرش، فلا اشتراك حينئذ؛ لأنك أضفت وخصصت، وإنما يوجد الاشتراك عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهو يكون في الذهن.

وكذلك أسماء المخلوقين وصفات المخلوقين تشارك أسماء الله وصفاته عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا يكون في الذهن، فإذا قيل: هل لفظ العلم، ولفظ القدرة، ولفظ السمع، ولفظ البصر، فيها اشتراك؟ قلنا: نعم؛ لأن السمع يشمل سمع الخالق وسمع المخلوق، والبصر يشمل بصر الخالق وبصر المخلوق، والعلم يشمل علم الخالق وعلم المخلوق، والقدرة تشمل قدرة الخالق وقدرة المخلوق، ويزول الاشتباه عند الإضافة والتخصيص، فتقول: علم الخالق، وعلم المخلوق، وقدرة الخالق وقدرة المخلوق، وهكذا بقية الصفات.

وكذلك لفظ (الإنسانية) في الذهن يشترك فيه عمر وخالد وبكر، وعمر وخالد لا يشتبهان في الخارج، لكنهما يشتبهان في مسمى الإنسانية، فكل منهما إنسان.

ومثله مسمى الحيوانية، ففيه اشتراك، فيدخل فيه الأسد والنمر والخيل والحمار والكلب والقرد، لكن إذا جئت إلى أوصاف هذه الحيوانات فلن تجد اشتباهاً بين القرد والفرس في الخارج.

<<  <  ج: ص:  >  >>