[أهمية العلم بالفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد العبادة]
إن كثيراً من الناس لا يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ويظنون أن الموحد هو الذي يثبت الرب ويثبت أسمائه وصفاته وأفعاله فقط، ولو لم يعبده، وهذا باطل.
فالتوحيد الذي أثبته القرآن، والذي خلق الله الخلق من أجله، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، هو توحيد العبادة والألوهية الذي يتضمن توحيد الربوبية، فالمعبود هو الخالق، والعاجز لا يصلح للعبادة، فالله تعالى معبود لكماله؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة، فهو له الكمال المطلق؛ لأنه متصف بالأسماء الحسنى، ولأنه خلق الخلق وأوجدهم من العدم، ولأن هذا الكون قام به سبحانه، وهو الحي القيوم.
إذاً: فالتوحيد الذي قرره القرآن هو توحيد العبادة، وهو الذي أنكره المشركون، لكن كثيراً من أهل الكلام وأهل النظر وأهل الفلسفة وأهل التصوف لا يعرفون توحيد العبادة، ويظنون أن توحيد الربوبية هو توحيد العبادة، وأنه لا فرق بينهما، وأن من أثبت الربوبية فقد عبد الله، وهذا من أبطل الباطل، والأدلة على هذا كثيرة، وقد أخبر الله سبحانه عن الأمم السابقة أنهم كانوا يقرون بالربوبية، وإنما حصل شركهم في العبادة، قال سبحانه وتعالى عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:٢٣]، وقد ثبت في صحيح البخاري وفي كتب التفسير وقصص الأنبياء أن هذه الأسماء -وهي: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر- أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا وغلا فيهم من بعدهم لصلاحهم، وعكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
إذاً فشرك قوم نوح كان في العبادة، فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم نوحاً عليه السلام ليدعوهم إلى الله، ويدعوهم إلى توحيد وإخلاص العبادة له، فمكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى التوحيد.
فالمطلوب هو توحيد العبادة، ولا يكفي توحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية وسيلة إلى توحيد العبادة.
وكذلك قوم صالح عليه السلام، فقد كانوا كفاراً، ومع ذلك كانوا يقرون بوجود الله، وكان كفرهم هو عدم توحيد الله، وعدم الاعتراف والإقرار والإيمان بنبوة صالح عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:٤٨ - ٤٩]، فهؤلاء التسعة الرهط من قوم صالح كانوا كفاراً، ومع ذلك أقسموا بالله على قتل نبيهم صالح عليه السلام وأهله، فهم مقرون بتوحيد الربوبية، قال تعالى: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} [النمل:٤٩]، وكان شركهم في العبادة، وقد دعاهم صالح عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الله ولم يدعهم إلى توحيد الربوبية؛ لأنهم مقرون بتوحيد الربوبية.
وكذلك المشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الأمم السابقة، كأمة الهند والترك والبربر، كل شركها كان في العبادة، بدليل أن هذه الأصنام التي وجدت في قوم نوح انتقلت إلى العرب، كما ثبت ذلك عن ابن عباس، وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم كانوا يقرون بالربوبية، وأن شركهم إنما هو في عبادة هذه الأصنام، قال الله تعالى عنهم وهم يطلبون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر:٣] أي: قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣]، فهم أشركوا في العبادة، فهم يطلبون القربى من الله بهذه الأصنام والأوثان، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:١٨].
وثبت في الصحيحين أن أم سلمة وأم حبيبة كانتا قد هاجرتا إلى الحبشة، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) لأن ذلك ذريعة إلى الشرك.
وقال عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت بخمس ليال: (لا تتخذوا القبور مساجد)، وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً)، قالت عائشة: لولا ذلك لأبرز قبره عليه الصلاة والسلام.
إذاً: فالتوحيد مطلوب من الأمم، وهو خلاصة دعوة الرسل وزبدتها، وأما أهل الكلام وأهل النظر وأهل الفلسفة وأهل التصوف؛ فلا يفرقون بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية، وهذا من البلاء، فلا بد من أن يكون طالب العلم على بصيرة من هذا الأمر، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ولم يقل: أو يمسلمانه، فدل هذا على أنه مفطور على الإسلام.
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم وأحمد -وهو حديث قدسي- يقول الرب عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشيطان عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم).
وأما توحيد الربوبية فهو أمر فطر الله عليه جميع الخلق، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم:٣٠ - ٣٧].
ففي هذه الآيات مناقشة ومحاجة ومجادلة للمشركين، وإثبات لتوحيد الألوهية والربوبية، فلابد من معرفة هذا الأمر.
وهؤلاء -أعني الفلاسفة وأهل التصوف وأهل النظر وأهل الكلام الذين غايتهم ونهايتهم توحيد الربوبية- إن لم يوحدوا الله في ألوهيته فهم مشركون من جنس أمثالهم من المشركين والوثنيين، فإذا ماتوا على ذلك فهم من أهل النار؛ لأن من مات وهو مثبت لتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ولا يعبد الله ولا يوحده؛ فهو من أهل النار، ولا ينفعه هذا التوحيد؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كفر المشركين، واستحل دماءهم وأموالهم مع أنهم كانهوا يقرون بتوحيد الربوبية.
إن كثيراً من أهل الكلام -ومنهم بعض الأشاعرة- لا يفرقون بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، ويفسرون (لا إله إلا الله) بتوحيد الربوبية، ويقولون معناها: لا خالق إلا الله.
وهذا غير صحيح؛ لأنه لو كان معناها (لا خالق إلا الله) لما امتنع المشركون من اعتقادها، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) امتنعوا وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:٥ - ٦] أي: اصبروا على عبادة الأصنام والأوثان، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:٦ - ٧] أي: ما سمعنا بهذا الكلام في الأمم السابقة، فبعض الأشاعرة يقول: المعنى: لا خالق إلا الله.
فيفسرون الإله بالخالق، وبعضهم يقول: لا قادر على الاختراع إلا الله، وهذا تفسير باطل، فمعنى (لا إله) ك لا معبود بحق (إلا الله)، وهذه هي كلمة التوحيد، وهي كلمة عظيمة لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وحقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وقامت القيامة، وانقسم الناس إلى فريقين: شقي وسعيد، فكيف يكون معناها: لا قادر إلا الله؟! إن عظمة هذه الكلمة لا تتبين، ولا يظهر منها أنها تنفي الألهية عن جميع المعبودات إلا إذا فسر الإله بالمعبود، فيكون معنى (لا إله)، أي: لا معبود، فـ (لا) نافية للجنس تعمل عمل (إن)، فتنصب الاسم وترفع الخبر، و (إله): اسمها، والخبر محذوف والتقدير: لا إله حق إلا الله، والمعنى: لا معبود بحق إلا الله، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله.
وأما تفسير بعض الأشاعرة وبعض أهل الكلام للإله بأنه القادر أو الخالق؛ فهو تفسير باطل؛ لأن معناه تفسير كلمة التوحيد بتوحيد الربوبية، وهذا باطل، فلو كان المعنى: (لا خالق إلا الله)، فهل يمتنع المشركون من أن يقولوا: لا خالق إلا الله وقد قال تعالى عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧]؟! إن كثيراً من الصوفية لا يفرقون بين توحيد الر