[فناء الصوفية في توحيد الربوبية]
إن التصوف منتشر على نطاق واسع في كل زمان ومكان، ولاسيما في هذا الزمان، وهذه الأمور كلها موجودة، ولا تظن أن هذا خيال، بل ذلك موجود في طوائف متعددة، حيث تجد في البلد مائة طريقة، ولكل طريقة شيخ، ويقررون هذا، ويقولون: هذا هو التوحيد، ومن هؤلاء ابن عربي رئيس وحدة الوجود، الذي يسمونه: خاتم الأولياء، وكبير العارفين والمحققين والسالكين إلى الله، وهناك من يقدسه ويعظمه من الناس، وهناك مؤلفات كثيرة لهؤلاء الصوفية، فلابد من معرفة ما يقال، ولابد من معرفة حالهم.
ومن قال: إن أحداً من الناس قد تسقط عنه التكاليف، وعقله معه، وهو ليس صغيراً ولا مخرفاً ولا مجنوناً غير الحائض والنفساء في الصلاة خاصة من قال ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ويفرد بالعبادة، فالله كلف العباد، فكان نبينا عليه الصلاة والسلام أشرف الرسل وأشرف الخلق وأعلى الخلق مكاناً عند الله، يصلي من الليل حتى تتفطر قدماه عليه الصلاة والسلام، وهو أشرف وأكمل خلق، وأعلى الخلق مقاماً عند الله، فتقول له عائشة رضي الله عنها: (لم تصنع هذا -يا رسول الله- وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)، فهو يفعل هذا عليه الصلاة والسلام تعبداً لله، وشكراً لله، ولتتأسى به أمته عليه الصلاة والسلام.
فالرسل أعلى الناس مقاماً ومنزلة عند الله، وهم أطوع الناس لله، وأعرفهم بالله، وأخوفهم من الله، وأكثرهم عبادة وتقوى وخشية لله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لما جاء بعض الناس.
فسألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر، فأخبروا بأن الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بعض الليل وينام بعض الليل، ويصوم بعض الأيام ويفطر بعض الأيام، ويتمتع بما أحل الله له، فيأكل اللحم، وله زوجات، قالوا: أين نحن من رسول الله؟! فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه، أما نحن فما ندري عن حالنا، فلابد من أن نزيد على ما فعله الرسول، فقال أحدهم: أنا أصلي الليل ولا أنام على فراشي، وقال الآخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم زهداً، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وهؤلاء الملاحدة يرون أن الخاصة تسقط عنهم التكاليف، نسأل الله السلامة والعافية.
فالواجب على طالب العلم أن يعتني بمعرفة توحيد العبادة وتوحيد الربوبية والفرق بينهما، ويعرف ما عليه هؤلاء الملاحدة من الانحراف والضلال حتى لا يقع في الشر، وحتى لا يقع في الشبكة.
وقد كان حذيفة رضي الله عنه يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)، فلابد أن يعرف الإنسان ما عليه هؤلاء من الانحراف عن الصراط المستقيم حتى يَحذر ويُحذِّر؛ لأن كثيراً من الناس يظنون أن هؤلاء الصوفية على الحق والصواب، ويظنون أنهم من كبار العارفين، وبعض الصوفية يغلون في بعض شيوخهم، ويزعمون أن بعض الصوفية لهم تصرف في الكون، حتى قال بعضهم: إن الأبله -وهو ضعيف العقل- قد يكون ولياً من أولياء الله وأنت لا تشعر، وقد يكون قطباً من الأقطاب يتصرف في الكون وأنت لا تشعر، يقول: لا تدري لعل هذا الأبله الذي أظفاره طويلة، وعليه ثياب خلقة مشققة، ويجلس على زبالة، لا لعله ولي يتصرف في الكون، هكذا يقولون ويزعمون، ولقد قال بعضهم: هناك أقطاب وأوتاد يتصرفون في الكون غلواً فيهم، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا شرك في الربوبية أعظم من الشرك في الإلهية.
ومنهم من يزعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحضر حفل الصوفية ويكون معهم ويؤيدهم، ومنهم من يزعم أنه جاء إلى الرسول ومد إليه الكف وأعطاه كذا وكذا، ومنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره ببعض الأشياء ويقره على بعض الأشياء، ومنهم من يزعم أن الرسول يأتيه في المنام، وكل هذه أقوال باطلة، فلابد لطالب العلم من أن يكون على بصيرة.
والمقصود أن هؤلاء الصوفية يفنون في توحيد الربوبية، أي: يكتفون بمشاهدة الرب، وبإثبات هذا التوحيد، وإثبات وجود الله، وأن الله تفرد بخلق أشياء ووجودها واختراعها وملكها، وأن ربوبيته وقيوميته وقدرته شاملة لها، ويكفي هذا الشهود، وهذا النظر هو نهاية التوحيد وغايته.
وهؤلاء ألغوا عقولهم، وكلامهم هذا موجود الآن في كتب محققة منقحة في أوراق صقيلة، وهناك من يعتني به، ويعتبر قائليه من كبار العارفين والمحققين، ويعتبر هذا نهاية التوحيد، نسأل الله السلامة والعافية.
وإثبات توحيد الربوبية أثبته عباد الأصنام والأوثان، وهم أحسن منهم في هذا، كما قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧]، فالتوحيد الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:٣]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:٥]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥].
فالتوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، فالله تعالى عرفنا بنفسه وبأسمائه وصفاته وأفعاله العظيمة، فمن حقه أن نعبده ونخصه بالعبادة، لا أن نكتفي بالشهود، أو نفنى في توحيد الربوبية، ولا يقف عند هذا أحد، وسيأتي الكلام على توحيد العبادة إن شاء الله تعالى.
وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.