وقد أجاب أهل الحق على اعتراضات المعطلة على نصوص العلو وتأويلاتهم بعدة أجوبة: الجواب الأول: أن تأويلكم لنصوص الفوقية بفوقية الخيرية والأفضلية، أو بفوقية القهر والسلطان على خلاف الحقيقة، فالتأويل هو صرف للفظ عن حقيقته إلى المجاز، والأصل في الألفاظ الحقيقة، وحقيقة الفوقية أن تكون ذات الشيء فوق الشيء، ولا يجوز صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز إلا بقرينة، ولا قرينة هنا، فإذا وجدت قرينة فلا مانع، بل ليس هناك قرينة تدل على صرف الفوقية في هذه النصوص إلى فوقية الخيرية والأفضلية، لكن إذا وجدت قرينة فنعم، كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل:{قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:١٢٧]، فهذه فوقية قهر وغلبة، والقرينة أن فرعون ومن معه كانوا كلهم على الأرض مستوين عليها، فليس فرعون أعلى منهم، بخلاف الفوقية في هذه النصوص والآيات، فليس الله مستوياً مع خلقه في الأرض حتى تؤولوها وتصرفوها إلى فوقية القهر والغلبة، بل الله فوق مخلوقاته بذاته.
الجواب الثاني: أن تفضيل الله على خلقه لم يأت في النصوص ابتداءً، وإنما جاء ذلك في سياق الرد على من اتخذ مع الله نداً، وعبده مع الله، وأشركه في الإلهيه، فتأتي النصوص للرد على هؤلاء وبيان أن الله خير من ذلك الند وأفضل، كما في قوله سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه قال:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[يوسف:٣٩]، وقوله تعالى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}[النمل:٥٩]، وقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[النحل:١٧]، فهذه الخيرية جاءت في سياق الرد، وذلك أنه يحسن في الخطاب الداحض لحجة الخصم وإلزامه بالحجة والرد عليه ما لا يحسن في الابتداء، وهذا أمر واضح لا ينكره إلا غبي.
الجواب الثالث: أن تأويل النفاة والمعطلة لنصوص العلو والفوقية بفوقية الخيرية والأفضلية تأويل باطل يفسد به معنى الآيات، حيث تشمئز منه العقول السليمة، وتنفر منه القلوب الصحيحة، وليس في هذا التأويل مدح ولا تمجيد ولا ثناء على الله، والله تعالى لم يمدح نفسه بأنه خير من العرش وأفضل منه، وبأنه خير من عباده وأفضل منهم، فلا مقارنة بين الخالق والمخلوق حتى يقال: إن الخالق خير من المخلوق وأفضل، بل إن المخلوقات المتفاوتة في الخلق لو قارنت بينها وفضلت بعضها على بعض لتنقصت الفاضل، فلو قال قائل: الشمس أفضل من السراج لتنقص الشمس، أو قال: السماء أعلى من سطح الدار، أو: السماء أكبر من الرغيف، أو: الجبل أثقل من الحصى، أو: رسول الله أفضل من اليهود، أو: السيف أحسن من العصا وأقوى، فكل هذا تنقص، كما قال الشاعر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا وإذا كان يقبح كل القبح -ويضحك من ذلك العقلاء- لو قلت: الجوهر أفضل من قشر البصل؛ فكيف تؤول آيات الفوقية بأن الرب خير من المخلوق وأفضل من المخلوق؟! فهذا باطل وهذا تنقص لله.
الجواب الرابع: أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الفوقية المطلقة، وهي تشمل فوقية الذات، وفوقية القهر والغلبة، وفوقية الخيرية والأفضلية، فمن أثبت بعضها ونفى بعضها فقد جحد ما أثبته الله لنفسه وتنقّص الله عز وجل.
وإثبات الفوقية لله عز وجل لا يستلزم محذوراً، ولا يوجب نقصاً، فالله تعالى لا يحتاج إلى العرش، ولا إلى حملة العرش، ولا إلى شيء من مخلوقاته، فالله هو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:٤١]، وهذه الشبه موجودة ومقررة، بل هناك من يعتنقها الآن ويدافع عنها ويقررها، فهناك من يدرس في التفسير والفقه والحديث ويقرر أن الله ليس فوق مخلوقاته، بل يقول: إن الله حال في مخلوقاته، أو يقول: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه.
فمن هنا تكون الحاجة ماسة وملحة إلى معرفة هذه الشبه وإبطالها وردها ودحضها.