للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شبهة استلزام إثبات العلو لكون الله في السماء وخلقه نفسه]

الشبهة الثانية من شبه نفاة العلو شبهة وردت على لسان الرازي، وهو من علماء الأشاعرة المتأخرين، لكنه اعتنق مذهب الجهمية وصار من النفاة المعطلة الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، وقد وقرر هذا في كثير من كتبه، مثل كتاب (مفاتيح الغيب) وكتاب (السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم)، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكر أنه تاب في آخر حياته وترحم عليه.

وهذه الشبهة مكونة من مقدمتين ونتيجة، والقاعدة عند أهل الكلام وأهل المنطق أنه إذا كان الدليل مكوناً من مقدمتين أن تأتي بالمقدمة الأولى ثم تسلمها، ثم تأتي بالمقدمة الثانية ثم تسلمها، فإذا سلمت للمقدمة الأولى وسلمت للمقدمة الثانية لزمتك النتيجة.

لكن الطريقة السليمة أن تعارض المقدمة الأولى أو تعارض المقدمة الثانية أو تعارض المقدمتين حتى ينقض الدليل.

يقول الرازي في هذه الشبهة التي يبطل بها أن الله فوق السماوات وفوق العرش: لو كان الله في جهة فوق لكان السماء، هذه المقدمة الأولى، والمقدمة الثانية: ولو كان السماء لكان مخلوقاً لنفسه، فكونه في جهة فوق محال، وكونه مخلوقاً لنفسه محال.

ففي المقدمة الأولى: لو كان الله في جهة فوق لكان السماء قال: عندي دليلان يثبتانها: الدليل الأول من اللغة، وهو أن اشتقاق السماء من السمو، وكل شيء سماك فهو سماء، وهو كذلك في عرف القرآن، فهذا الدليل الأول الذي أثبت به هذه المقدمة.

والدليل الثاني عقلي: قال: لو كان الله فوق العرش لكان من جلس في العرش ونظر إلى فوق لم ير إلا نهاية السطح الأخير من ذات الله، فكانت نسبة نهاية السطح الأخير من ذات الله إلى سكان العرش كنسبة السطح الأخير من السماوات إلى سكان الأرض، فثبت من ذلك أنه لو كان فوق لكان سماءً.

المقدمة الثانية: ولو كان السماء لكان مخلوقاً لنفسه، قال: الدليل على ذلك أن السماء مخلوقة بنص القرآن، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:٤٧]، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف:٥٤]، فالسماء مخلوقة، فلو كان السماء لكان مخلوقاً لنفسه، وكونه مخلوقاً لنفسه محال، فثبت أن كونه فوق العرش محال.

ويرد على هذه الشبهة بأنه لما كان قد استقر في نفوس المخاطبين في عهد النبوة أن الله هو العلي الأعلى؛ كان هذا هو المفهوم من النصوص، كقوله سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، فالمفهوم أن الله في العلو من غير تخصيصه بالأجسام وحلوله فيها، فالجارية التي قال لها النبي: (أين الله؟ قالت: في السماء) مرادها أن الله في العلو من غير تخصيصه بالأجسام وحلوله فيها، ولو قدر أن المراد بالسماء الأفلاك تكون (في) بمعنى على، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، أي: على السماء، وكقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١]، أي: على جذوع النخل، وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:١١]، أي: على الأرض، ويقال: فلان في السطح وإن كان على السطح.

الجواب الثاني: أن من فهم من قول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] أن السماء تحيط بالله وأن الله داخل السماء فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهم هذا من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن أحد من أهل العلم.

ولو سئل سائر المسلمين عن قول الله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء) فهل سيفهمون من قوله: (في السماء) أن الله داخل السماء؟! بل لبادر كل واحد منهم قائلاً: لعل هذا لا يخطر ببال واحد منا، وإذا كان كذلك فمن التعسف والتمحل أن يحمّل النص معنى فاسداً لا يحتمله، ثم يريد أن ينفي النص ويبطله.

الجواب الثالث: أن الأصل في ما ورد في النصوص من قول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء)، الأصل أن المراد بالسماء العلو، وهذا هو المعروف في اللغة، وتكون (في) للظرفية، فقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، أي: من في العلو.

فالسماء اسم جنس للعالي، فهو اسم للعرش، والعرش يسمى سماء؛ لأنه علو، فالعرش وما دونه كله علو، ولكن قد يفهم بعض الناس أن المراد بالسماء الطباق المبنية، وحينئذٍ فلابد من قرينة، وإذا أريد بها الطباق المبنية فتكون (في) بمعنى على، كقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، أي: من على السماء، وكقوله {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:١١]، أي: على الأرض، وقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:٢]، أي: على الأرض، وقوله عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١]، أي: على جذوع النخل، فليس المعنى أنه يدخلهم في وسط الجذوع، بل المراد على جذوع النخل.

ولكن لا حاجة إلى هذا؛ لأن السماء اسم جنس للعالي والعرش فما دونه، والله تعالى له أعلى العلو وهو فوق العرش، وهو العلي الأعلى سبحانه وتعالى.

وبهذا ينتهي البحث في هذه المسألة العظيمة، وهي مسألة العلو، وهي محل نزاع ومفترق طرق، فمن أثبت العلو لله فهو من أهل السنة، ومن نفاه فهو من أهل البدعة ومن أهل التجهم، وهناك بدع أخرى في صفات أخرى.

وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العمل الصالح الذي يرضيه، ووفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح، وجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الثبات على دينه والاستقامة عليه حتى الممات، إنه على كل شيء قدير.

<<  <  ج: ص:  >  >>