[الفرق بين الكفر الأكبر والأصغر]
أما الكفر فإنه يتنوع وينقسم إلى قسمين: كفر أكبر وكفر أصغر، فالكفر الأكبر مخرج عن الملة - نسأل الله السلامة والعافية- ويحبط الأعمال، ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه، ويوجب الخلود في النار، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة:١٠]، فالكافر كفراً أكبر مخلد في النار، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:٥٦].
فهذه أحكام الكفر الأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، ويُخرج من الملة، ويحبط جميع الأعمال، ويخلد صاحبه في النار إذا مات عليه من غير توبة.
أما الكفر الأصغر فهو ما ورد تسميته من الذنوب كفراً ولم يصل إلى حد الأكبر، فهو تحت مشيئة الله، ولا يخرج من الملة، ولا يحبط الأعمال، ولا يوجب الخلود في النار.
فالكفر بالنسبة للحكم ينقسم إلى قسمين: كفر أصغر وكفر أكبر, ولكل منهما أحكام، فمن أحكام الكفر الأكبر أن الله لا يغفره إلا بالتوبة، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة مفتوحة للعبد، لكن بشرط أن تكون مستكملة ومستجمعة لشروطها، وشروطها: الإقلاع عن الذنب وعن الكفر العظيم، والندم على ما مضى، والعزم الجازم الصادق على ألا يعود إلى هذا الذنب، ولا بد من أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، أي: قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم، فإن وصلت الروح إلى الحلقوم فلا توبة.
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:١٧ - ١٨].
ولا بد من أن تكون التوبة قبل معاينة العذاب وقبل نزول العذاب، فإذا عاين العذاب ونزل العذاب فلا ينفع الإيمان ولا تنفع التوبة، ولهذا يعد فرعون من أكفر خلق الله، فقد ادعى الربوبية والألوهية وقال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، ثم تاب لما رأى العذاب، لكن توبته وقعت في وقت لا تصح فيه ولا تقبل، وهو عند نزول العذاب، قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:٩٠]، قال الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:٩١].
فأخبر الله أنه عند رؤية العذاب لا تنفع التوبة، ولم يستثن الله إلا أمة واحدة هي قوم يونس، فهؤلاء نفعهم أيمانهم عند رؤية العذاب، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:٩٨].
ومن شروط صحة التوبة: أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فإذا طلعت الشمس من مغربها فلا توبة، ولا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها كما جاء في الحديث، فهذه الشروط لا بد منها في صحة التوبة وقبولها.
ويزاد شرط آخر، وهو أنه إذا كانت المعصية والمظلمة بينك وبين الناس فلا بد من رد المظلمة إلى أهلها إن كانت تتعلق بالبدن، فيسلم نفسه إن قتل لأولياء القتيل للقصاص، أو يسلم نفسه لقطع طرف، أو لضرب حتى يقتص منه أو يعفى عنه بالدية أو يعفى عنه بغير ذلك، وإن كانت المظلمة مالاً -كالسرقة أو الغصب أو الخيانة أو الغش أو الخداع- فلا بد من رد المال إلى صاحبه بأن يرسله إليه بنفسه أو بوكيله، ولا يشترط أن يقول: هذا مال سرقته أو غصبته، بل يقول: هذا حق لك، أو يرسله عن طريق وكيل، وإن كانت المظلمة في عرض فإنه يتحلله ويستسمح منه، فإن كان يترتب على ذلك شر فإنه يدعو لهم بظهر الغيب، ويدعو لمن اغتابه بظهر الغيب ويستغفر له، ويذكر محاسنه وصفاته في الأماكن التي اغتابه فيها ولا يكذب، بل يخبر بالواقع، فهذه الشروط لا بد منها لقبول التوبة، ومن تاب تاب الله عليه، سواء أكان هذا الذنب كفراً، أم كان دون الكفر، أم دون الشرك، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].
قال العلماء: هذه الآية في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق، بخلاف الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، ففي هذه الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه غير مغفور، وعلق ما دونه بالمشيئة، وهذه في غير التائبين، وأما آية الزمر فهي في التائبين.
فالمقصود أن الكفر الأكبر لا يغفر إلا بالتوبة بهذه الشروط، فإن مات صاحبه من غير توبة فإنه لا يغفر، ويحبط عمله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢١٧]، ويُخرج من ملة الإسلام، ويوجب الخلود في النار.
أما الكفر الأصغر فليس له هذه الأحكام، بل صاحبه تحت المشيئة، ولا يخرج من الملة، ولا يحبط الأعمال، ولا يوجب الخلود في النار.