[شرك الألفاظ والأقوال]
والشرك الأصغر يكون في الألفاظ والأقوال ويكون في الأعمال، ويكون في الاعتقاد، ولكل واحد من هذه الأنواع أمثلة.
فمن أمثلة الشرك في الألفاظ والأقوال: الحلف بغير الله، وذلك كأن يقول: وحياتِه، فيحلف بحياته، أو وحياةِ فلان، أو أن يقول: والنبي، أو يحلف بالأمانةِ، أو بالكعبةِ، أو يقول: بأبيك، أو بشرفك، أو بلحيتك، وما أشبه ذلك، فهذا من الشرك الأصغر الذي هو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم، فإذا حلف بغير الله فهو مشرك شركاً أصغر، وقد يكون شركاً أكبر إذا اعتقد أن المحلوف به يستحق من التعظيم كما يستحق الله، أو أنه يستحق شيئاً من العبادة، فإنه يكون شركاً أكبر بهذا الاعتقاد، وإلا فالأصل أنه شرك أصغر.
ومن أمثلة الشرك في الألفاظ والأقوال: التسوية بين الخالق والمخلوق في المشيئة، كأن يقول: ما شاء الله وشئت، فهذا تسوية بين الخالق والمخلوق، وهو من الشرك الأصغر؛ لأن الواو تكون لمطلق الجمع وللتشريك والتسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، والتسوية بين الخالق والمخلوق شرك، فإن كان في الأصغر فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، ومن الشرك الأكبر التسوية بين الخالق والمخلوق في المحبة والتعظيم والخشية والإجلال والطاعة، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٩٧ - ٩٨]، فالتسوية بين الخالق والمخلوق في المحبة والعبادة شرك أكبر، والتسوية بين الخالق والمخلوق في المشيئة شرك أصغر، كأن يقول: ما شاء الله وشئت.
فقد سوى بين الخالق والمخلوق في المشيئة.
وثبت أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت.
فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)، فقوله: (أجعلتني لله نداً؟!) من التنديد الأصغر، فالتنديد يكون أكبر ويكون أصغر، فالأكبر يكون في العبادة، والتنديد الأصغر كالتشريك والتسوية في المشيئة.
وأما إذا أتى بكلمة (ثُمَّ) وقال: ما شاء الله ثم شئتَ؛ فهذا لا بأس به؛ لأن (ثُمَّ) تفيد العطف بتراخي ومهلة، فالمعطوف بـ (ثم) يأتي بعد المعطوف عليه بمهملة وتراخ، ولا تفيد التشريك والتسوية، فلذلك يجوز أن تقول: ما شاء الله ثم شئتَ.
وقد ثبت في الحديث عن قتيلة: (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: والكعبة، وتقولون: ما شاء الله وشئتَ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت)، رواه النسائي بإسناد صحيح.
وعلى هذا فتكون الحالات ثلاث: الحالة الأولى: أن يقول: ما شاء الله وشئتَ، وهذا ممنوع، وهو شرك أصغر.
الحالة الثانية: أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، فهذا جائز.
الحالة الثالثة: أن يقول: ما شاء الله وحده، وهذا هو الأكمل والأفضل.
ومن الشرك الأصغر أن يقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، ولولا أنت لم يكن كذا، فكل هذه الألفاظ من الشرك الأصغر؛ لما فيها من التشريك بين الخالق والمخلوق والتسوية بينهما بالعطف بالواو، وهذا ممنوع، فإذا قلتَ: هذا من الله ثم منك، فلا بأس، وكذلك: أنا بالله ثم بك؛ لأن (ثم) للعطف، والمعطوف بعدها يأتي بتراخ ومهلة، وكذلك لو قلت: لولا الله ثم أنت، فذلك لا بأس به، وأما: أنا متوكل على الله ثم عليك فلا يجوز؛ لأن التوكل في الأسباب الظاهرة من الشرك الأصغر، وكذلك الحسْب، كأن تقول: أنا في حسب الله ثم في حسبك، فالحسب والكفاية خاصان بالله تعالى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤] أي: كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٢٣]، فالحسب والتوكل خاصان بالله تعالى.
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢] قال: الأنداد هو الشرك، وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك -يا فلان- وحياتي، وتقول: لولا كلية هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، فهذا كله به شرك.
رواه ابن أبي حاتم.
فهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تفسير للأنداد في الآية، والتنديد ينقسم إلى قسمين: تنديد أكبر وتنديد أصغر، فهذا من التنديد الأصغر، وهو من الشرك الأصغر.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل.
فهل يسمع الإنسان أو يرى دبيب النملة السوداء التي تمشي على صخرة ملساء في ظلمة الليل؟! فالشرك أخفى من دبيب النملة على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو مثل أن تقول: والله وحياتك -يا فلان- وحياتي، وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، فتسند هذا إلى السبب، لكن لو قلت: لولا الله ثم كلبة هذا، ولولا الله ثم البط في الدار لأتانا اللصوص، جاز.
وقد ثبت في سنن ابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها أنه قال: (رأيت -يعني: في المنام- كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، فقالوا: لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد.
ثم مررت على نفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، فقالوا: لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد.
ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحداً؟ قلت: نعم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد)، وجاء في بعض الروايات أن الذي منعه عن أن ينهاهم أن يقولوا: (ما شاء الله وشاء محمد) هو الحياء، وهذا قبل أن يوحى إليه بالنهي، فلما أوحي إليه لم يمنعه شيء عليه الصلاة والسلام، بل نهاهم عن أن يقولوا ذلك، وقد كانت هذه الرؤيا سبباً في النهي، وقد كان الناس في أول الإسلام يقولون: ما شاء الله وشئت، وما شاء الله وشاء محمد، ثم مُنعوا من ذلك.
وجاء -أيضاً- عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)، فدل هذا على أنه إذا أتى بالعطف بـ (ثم) فلا بأس به.
وجاء عن إبراهيم النخعي أنه كان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوَّز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، وقال: قولوا: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
فهذه النصوص كلها تدل على أنه لا يجوز الحلف بغير الله، وأنه من الشرك الأصغر، ولا تجوز التسوية بين الخالق والمخلوق بالواو في المشيئة، لكن إذا كان العطف بـ (ثم) فلا بأس به.
ومن الشرك في الألفاظ والأقوال أن يقول: مُطرنا بنجم كذا، أو بنوء كذا، معتقداً أن المنزِّل للمطر هو الله والنجم سبب في نزول المطر، أو أنه ليس بسبب ولكن يعتقد أن الله أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، فهذا من الشرك الأصغر إن كان يعتقد أنه سبب؛ لأن الله لم يجعل النجم سبباً في نزول المطر، وإن كان لا يعتقد أنه سبب ولكن يقول: إن الله أجرى العادة بنزول المطر عند سقوط ذلك النجم؛ فهذا أيضاً من الشرك الأصغر على الصحيح؛ لأنه نسب ما هو من فعل الله الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر -وهو النجم- لا يضر ولا ينفع، ولو كان لا يعتقد أنه سبب؛ لأنه نسب ذلك إلى النجم، ولو على سبيل المجاز، فيمنع من ذلك حماية لجناب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك، ولو كان بالعبارات الموهمة التي لا يقصدها صاحبها، فيمنع، فيكون كقوله: ما شاء الله وشئت.
وإذا كان يعتقد أن النجم له تأثير في إنزال المطر فهذا شرك أكبر، وأما إذا قال: مُطرنا في نجم كذا فلا بأس بذلك، والمراد: في وقت كذا، أي: في وقت الربيع، أو في وقت الخريف، أو في وقت طلوع النجم الفلاني، وعلى هذا تكون الحالات ثلاث في هذا الأمر:- الحالة الأولى: أن يقول: مُطرنا بنجم كذا، معتقداً أن للنجم تأثيراً في إنزال المطر، فهذا شرك أكبر في الربوبية؛ لأنه جعل النجم مؤثراً ومدبراً، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، نعوذ بالله من ذلك.
الحالة الثانية: أن يقول: مُطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا، معتقداً أن مُنزل المطر هو الله، وأن النجم سبب، أو أنه ليس بسبب ولكن الله أجرى العادة في نزول المطر عند سقوط ذلك النجم، وهذا شرك أصغر لا يجوز؛ لأن الله لم يجعل النجم سبباً في نزول المطر، بل ولو لم يعتقد أنه سبب؛ لأن قوله: إن الله أجرى العادة بنزول المطر عند سقوط ذلك النجم، ثم قوله: مطرنا بنجم كذا موهم أنه يجعله سبباً، فيُمنع؛ سداً لذريعة الشرك، وحماية للتوحيد.
الحالة الثالثة: أن يقول: مُطرنا في نجم كذا، وهذا جائز لا بأس به.
ومن الشرك في الأقوال أيضاً: التسميع، كأن يحسن صوته بالقراءة تسميعاً للناس، فهذا من الشرك في الألفاظ وإن كان من الرياء في الأقوال، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يدعو إلى الله مراءاة للناس وتسميعاً لهم، فهذا من الرياء في الأقوال، وقد جاء في الحديث: (