للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أصل الأمر بالمعروف]

يرد على المعتزلة بأن الاجتهادات والآراء لا يلزم بها الناس، وإنما يلزم الناس بالنصوص الشرعية، أما الاجتهادات والأفهام فلا يلزمون بها، فالمجتهد لا يلزم غيره، فإذا اجتهد عالم في فهم النصوص الشرعية فإنه يعبد الله بما وصل إليه باجتهاده، لكن ليس له أن يلزم غيره، فلا يلزم الناس بالاجتهادات، وإنما يلزمون بالنصوص، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلين العصر أحد إلا في بني قريظة)، وهذا بعد غزوة الأحزاب؛ لأن بني قريظة نقضوا العهد، وهم من قبائل اليهود في المدينة، وممن صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم، والذين صالحهم الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود في المدينة هم بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، فنقضوا العهد ومالئوا المشركين، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب جاء جبريل فقال له: (وضعت السلاح؟! لكنا لم نضعه، إن الله يأمرك أن تذهب إلى بني قريظة؛ لأنهم نقضوا العهد.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فأسرع الصحابة رضوان الله عنهم في الذهاب، ثم أدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فاختلف الصحابة، فمن الصحابة من قال: نصلي في الطريق ثم نواصل السير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد منا أن نؤخر الصلاة عن وقتها، وإنما أراد منا المبادرة والإسراع، وقد بادرنا، فنصلي ثم نواصل السير، وقال آخرون من الصحابة: لا نصلي حتى نصل إلى بني قريظة، ولو لم نصل إلا بعد غروب الشمس؛ لأن عندنا نصاً، فلم يصلوا حتى وصلوا إلى بني قريظة بعد الغروب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر كلتا الطائفتين، ولم يعنف هؤلاء ولا هؤلاء؛ لأن كلتا الطائفتين اجتهدت، فالأولون اجتهدوا وقالوا: عندنا النصوص التي تدل على توقيت المواقيت، كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:١٠٣]، والآية محكمة، وهي الأصل، فنحن نبقى مع النصوص الواضحة الكثيرة فنصلي في الوقت ثم نواصل السير، ونتفقه في هذا النص الأخير، فنفهم منه أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم المبادرة في السير، لا أن نؤخر الصلاة عن وقتها، فنصلي ثم نواصل.

وأما الآخرون فقالوا: عندنا نص من النبي صلى الله عليه وسلم، فنتمسك به، وهو: (لا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فلا نصلي إلا في بني قريظة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر هؤلاء وهؤلاء، ولم يعنف أحداً من الفريقين.

لكن عند التأمل أيهما المصيب؟ أي: هل المصيب من صلى في الطريق أم المصيب من صلى بعد وصوله إلى بني قريظة بعد غروب الشمس؟! لقد بحث ابن القيم رحمه الله هذه المسألة وقال: إن الذين صلوا في الطريق قد سلكوا مسلك الأئمة ومسلك أهل القياس والمعاني، أي أنهم تفقهوا في النصوص وجمعوا بينها، وأما الذين أخذوا بالنص الأخير فقد سلكوا مسلك أهل الظاهر، حتى قال ابن حزم الظاهري: لو كنت معهم لم أصل إلا بعد الوصول.

فالنبي صلى الله عليه وسلم ما عنف أحداً من الفريقين، فدل على أن الأمور الاجتهادية النظرية التي يشتبه أمرها لا يلزم بها الناس، فهذا فيه رد على المعتزلة في إلزامهم الناس باجتهاداتهم الباطلة، ويسمونه الأمر بالمعروف.

<<  <  ج: ص:  >  >>