للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الطبيعيون]

الطائفة الثانية من الطوائف التي شذت عن المجموعة البشرية وأنكرت الرب العظيم: الطبيعيون، وهم الذين يقولون: إن العالم وجد نتيجة للطبيعة، والطبيعة يفسرونها بتفسيرين: التفسير الأول: أنها عبارة عن ذات الأشياء، فذات النبات خلقت النبات، وذات الأرض خلقت الأرض، وذات السماء خلقت السماء، وذات الإنسان خلقت الإنسان، وذات الحيوان خلقت الحيوان، هكذا يقولون، وهذا من أفسد ما يقال من الأقوال؛ لأن معنى ذلك أن الشيء أوجد نفسه، فتكون الأرض خلقت الأرض، والسماء خلقت السماء، والإنسان خلق الإنسان، وهذا باطل، فلا يمكن أن يخلق الشيء نفسه؛ لأن الشيء قبل وجوده عدم، والعدم لا يمكن أن يوجد شيئاً، فالأرض كانت قبل وجودها عدماً، فكيف يخلق العدم ويوجد، والإنسان عدم قبل أن يخلق، والعدم ليس بشيء، فكيف يوجد ويخلق، ولهذا قال الله تعالى في كتابه العظيم: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:٣٥ - ٣٦].

فلا يمكن أن يُوجِد شيء معدوم نفسه إلا بموجد، بل لابد له من موجد خالق، وهو الرب سبحانه وتعالى، وهو واجب الوجود بذاته سبحانه وتعالى، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الحي القيوم، القائم بنفسه المقيم لغيره سبحانه وتعالى، لا يلحقه نقص ولا عدم، بل هو واجب الوجود بذاته سبحانه وتعالى.

وأما المخلوقات فهي مخلوقة من العدم، والعدم لا يوجد نفسه، ولا يخلق ولا يوجد شيئاً، فالمعدوم لا يخلق نفسه ولابد له من خالق، ولهذا قال سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥].

وقد ثبت في صحيح البخاري أن جبير بن مطعم رضي الله عنه قدم المدينة في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، حيث وضعت الحرب أوزارها فاختلط المشركون بالمسلمين، وهذا من الحكم العظيمة في صلح الحديبية، فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل الشروط -وإن كان فيها غضاضة على المسلمين- لأن فيها مصالح عظيمة، حيث تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم للكتابة للرؤساء والعشائر، واختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا القرآن، وأسلم جمع غفير منهم، وفي ذلك الزمن قدم جبير بن مطعم رضي الله عنه قبل أن يسلم إلى المدينة من مكة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الطور، وسمع هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] قال: فكاد قلبي أن يطير.

فدبت الحياة فيه قبل أن يسلم، ثم بعد ذلك أسلم رضي الله عنه.

وأما تفسير الطبعيين الثاني للطبيعة فهو أنها عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها، فيقولون: هي صفات الأشياء وخصائصها من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والملاسة والخشونة، وكذلك المتقابلات من حركة وسكون، وتزاوج وتوالد، ونمو واغتذاء، فهذه الصفات وهذه المتقابلات هي الطبيعة عندهم، وهي التي أوجدت الأشياء، وهذا التفسير أفسد من التفسير الذي قبله؛ لأنه إذا عجزت ذات الأشياء عن إيجاد نفسها فعجز صفاتها من باب أولى، فإذا كانت الذات لا توجد ولا تخلق، فكيف تكون الصفة موجدة خالقة؟! بل إذا عجزت ذات الأشياء فعجز صفاتها من باب أولى، وهل الصفة تخلق الموصوف؟! فإذا كان الموصوف نفسه لا يستطيع أن يوجد نفسه، فكيف توجد الصفة نفسها؟! ولأن الصفة تابعة للموصوف، والطبيعة حالة محضة لا شعور لها، فكيف توجد؟! وكيف تصدر عنها هذه الأفعال العظيمة، وهذه الأفلاك المنظمة المرتبة التي على أحسن نظام وأبدعه؟! إن ذلك لا يمكن، ثم إن هذا التفاوت العظيم بين المخلوقات لابد من أن يحصل عن حكمة، فلو كانت الطبيعة هي الخالقة لكان الخلق متساوين غير متفاوتين! والمقصود أن هذا من أخبث ما يقال.

<<  <  ج: ص:  >  >>