[صور من النفاق الأصغر]
أما النوع الثاني من النفاق: فهو نفاق أصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط الأعمال ولا يوجب الخلود في النار، بل هو معصية من المعاصي، وضابطه أنه يكون في العمل، وهو كل ما ورد من الأعمال تسميته نفاقاً، وهذا له أمثلة، منها: الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر في العهد، والإعراض عن الجهاد، والكسل عند القيام إلى الصلاة، والمراءاة للناس في العمل، وعدم ذكر الله في الصلاة إلا قليلاً، وتأخير الصلاة عن وقتها، ونقرها كنقر الغراب، والتخلف عن صلاة الجماعة، فكل هذه أمثلة للنفاق الأصغر، ولها أدلتها من الكتاب والسنة.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية - أي: علامة- المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وفي صحيح مسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)، يعني: وزعم أنه مسلم حقاً، فليس إسلامه حقيقياً، وإنما إسلامه ناقص.
وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر).
قال بعض العلماء تعليقاً على هذا الحديث: هذه الخصال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم الأربع قد تجتمع مع أصل الإسلام أو الإيمان، ولكنها إذا استحكمت وكملت فقد ينسلخ صاحبها من الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى عن هذا الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً، وقد تجتمع كلها في العبد ويكون عاصياً، لكنها إذا بلغت الغاية والنهاية في الاستحكام والكمال فهي تدل على النفاق الأكبر وتجره إليه، لأنه لو لم يكن منافقاً نفاق كفر لما استحكمت وكملت، فلما استحكمت وكملت وبلغت الغاية والنهاية دل ذلك على أن صاحبها ليس عنده شيء من الإيمان وأنه منافق خالص، وإلا فالأصل أنها معاص.
والدليل على أن الإعراض عن الجهاد من النفاق: ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، فالإعراض عن الجهاد خصلة من خصال النفاق.
والدليل على أن الكسل والرياء وعدم ذكر الله إلا قليلاً من النفاق قول الله تعالى عن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:١٤٢].
والدليل على أن تأخير الصلاة عن وقتها ونقرها كنقر الغراب من صفات المنافقين ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كادت أن تغرب بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)، فهو يؤخر صلاة العصر إلى غروب الشمس، وينقرها كنقر الغراب.
والدليل على أن التخلف عن الجماعة من صفات المنافقين، أو من النفاق العملي ما ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
فقوله: (ولقد رأيتنا)، يعني الصحابة، (وما يتخلف عنها)، يعني: عن صلاة الجماعة في المسجد، ثم قال: (ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
فـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يذكر أنه لا يتخلف عن صلاة الجماعة إلا منافق معلوم النفاق.