[جملة من الردود تتضمن بطلان مذهب الأشاعرة في صفة كلام الله]
من المناقشات التي يناقش بها الأشاعرة في قولهم: إن الكلام معنى قائم بنفس الرب لا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتعدد ولا يتكثر أن يقال لهم: أنتم مسلمون تقرون بأن الله كلم موسى وأن موسى سمع كلام الله، وأنتم تقولون: إن المعنى واحد قائم بنفس الرب لا يتجزأ ولا يتعدد، فهل سمع موسى جميع المعنى أم بعض المعنى؟ فإن قلتم: سمع موسى جميع المعنى فقد زعمتم أنه سمع جميع كلام الله وهذا ظاهر الفساد، وإن قلتم: سمع بعض المعنى فقد قلتم بالتبعيض وهذا خلاف مذهبكم.
ويلزم أيضاً على قول الأشاعرة أن يكون الكلام معنى وإنما الاختلاف في العبارات والدلالات، لأنهم يقولون: الكلام معنى قائم بالنفس، وكونه أمراً ونهياً وخبراً واستفهاماً هذه صفات إضافية، وكونه قرآناً أو توراة أو إنجيلاً هذا تقسيم للعبارات، ويلزم على هذا أن يكون معنى قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣٢]، هو معنى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:٤٣]، ويلزم أن يكون معنى (آية الدين) هو معنى (آية الربا)، وأن يكون معنى (سورة الإخلاص) هو معنى سورة (تبت يدا أبي لهب)، وهذا باطل.
ولو كان ما في المصحف ليس هو كلام الله -كما يقوله الأشاعرة- لما حرم على المحدث مس المصحف ووجب عليه الوضوء، ولو كان القارئ لا يقرأ كلام الله وإنما يقرأ عبارة عن كلام الله؛ لما حرُم على الجنب قراءة كلام الله، وكذلك الحائض عند كثير من الفقهاء.
ويقال للأشاعرة: أنتم تقولون: إن الكلام معنى قائم بنفسه وأما القرآن الذي بين أيدينا فليس فيه كلام الله، فنقول: إن الله تعالى تحدى البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨]، فالإشارة بقوله: (أن يأتوا بمثل هذا القرآن)، هل هي إلى ما في نفس الله أو إلى هذا المتلو المسموع المقروء؟! لاشك في أنها إلى هذا المتلو المسموع المقروء، وأما ما في نفس الله فغير مشار إليه، وكذلك قوله ((لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ))، فالضمير يعود إلى ما بين أيدينا من كلام الله.
فما في نفس الله غير متلو ولا مشار إليه ولا مسموع، وما في نفس الله لا حيلة إلى الوصول إليه، فكيف يتحدى بأن يؤتى بمثله؟! ومن الأدلة على بطلان مذهب الأشاعرة قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦]، فقال: ((فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)) ولم يقل: فأجره حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله.
ومن الأدلة على بطلان مذهب الأشاعرة: ما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا نتكلم في الصلاة)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله)، وقد أجمع العلماء على أن الإنسان لو تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحة بطلت صلاته، وأجمعوا على أن ما يقوم في قلب الإنسان من تحدث بأمور دنيوية أو غيرها لا يبطل الصلاة، فأنت تصدق وتكذِّب وتطلب وتأمر وتنهى في نفسك، فهذا لا يبطل الصلاة، فدل على أن الكلام هو الذي يكون بحرف وصوت.
ومن الأدلة في الرد عليهم: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل)، ووجه الرد أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين حديث النفس وبين الكلام، فأخبر أن حديث النفس معفو عنه، وأن الكلام والعمل غير معفو عنه، فدل على أن الكلام هو ما يقوم باللسان وينطق به ويتكلم به.
ومن الردود: ما ثبت أيضاً في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لـ معاذ: (يا معاذ! كف عليك هذا -وأشار إلى لسانه- فقال معاذ: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!)، فأخبره بأن الإنسان إنما يؤاخذ بما يتكلم به بلسانه وينطق به، فدل على أن الكلام لفظ ومعنى، وحرف وصوت، وأن كلام الله معانٍ وحروف وأصوات قائمة بذاته سبحانه وتعالى.
والحق أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن كلها من كلام الله، وكلام الله لا يتناهى، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:٢٧]، فلو كان هذا البحر مداداً يكتب به ومد بسبعة أبحر وكانت الأشجار كلها أقلاماً يكتب بها؛ لتكسرت الأقلام ونفد الماء ولم ينفذ كلام الله، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:١٠٩].