[توحيد خاصة الخاصة]
النوع الثالث من أنواع التوحيد: توحيد خاصة الخاصة، ويسمون أنفسهم: أهل التحقيق، وهو التوحيد القائم بالقديم، أي: قائم بالله، وهو توحيد اختصه الحق بنفسه، واستحقه بقدره، أي: لا يوحده به غيره، فالتوحيد هو كلامه وصفته القائمة، كقوله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} [الحشر:٢٢]، {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:١٤].
واستحقه بقدر كنهه الذي لا يبلغه غيره، وألاح منه لائحاً إلى أفراد طائفة من أهل خاصته، أي: أظهر منه شيئاً يسيراً إلى طائفة قليلة من الخلق هم أهل خاصته، وأخرصهم عن نعته، بمعنى أنه لا يقبل نعت المخلوقين له، كما لا يقبل لسان الأخرص الكلام، أو أن الله أسكتهم عنه غيرة وصيانة له.
وأعجزهم عن بثه، أي: أعجزهم عن الإخبار به والبيان، فما هو هذا التوحيد؟! إنه توحيد أسره إلى طائفة من الخلق، وهم الذين حل بهم، والعياذ بالله، وهم طائفة قليلة هم أهل الحلول، أسر إليهم شيئاً من التوحيد، ومع ذلك أخرسهم عن نعته، وأعجزهم عن بثه، أي: لم يمكنهم من الكلام به.
فما هذا الكلام الذي يدندن حوله هؤلاء الصوفية؟! وما هو التوحيد الذي لا يتكلم به الإنسان؟! إن الإنسان يتكلم إذا أعطاه الله القدرة على الكلام، وإن كان الناس يتفاوتون في البيان والإيضاح، لكن كل ما علمه القلب أمكن التعبير عنه باللسان وإن اختلفت العبارة وضوحاً وخفاء، ولهذا يقول الهروي في بيان توحيد خاصة الخاصة: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد فقوله: (ما وحد الواحد من واحد) يعني: ما وحد الله أحد سواه؛ لأن التوحيد الحقيقي هو الذي يتضمن شهود ذات الواحد وانفراده، بخلاف العبد إذا وحد الله، فيكون توحيده تثنية ظاهرة، حيث يشاهد نفسه ويشاهد ربه، وهذا الشرك عندهم، فالتوحيد الحقيقي هو الذي يتضمن شهود ذات الواحد وانفراده، والذي تتلاشى فيه الأقوال، وتضمحل فيه الرسوم، والعبد المخلوق حينما يوحد ربه يشاهد نفسه ويشاهد ربه، وهذا ليس بدقيق، بل التوحيد هو الذي تتلاشى فيه الرسوم، وتضمحل فيه الأكوان، ولا يبقى شيء إلا الله، وهذا حينما يكون الرب هو الذي يوحد نفسه بنفسه، فهو الموحِد وهو الموحَد، فقوله: (ما وحد الواحد من واحد) (من) زائدة، أي: ما وحد الواحد أحد من الخلق.
وقوله: (إذ كل من وحده جاحد) معناه أن كل من وحد الله من الخلق جاحد بحقيقة توحيده؛ فإن حقيقة التوحيد تتضمن شهود نفي الواحد وانفراده، وإذا وحد واحد من الخلق يكون توحيده تثنية.
ثم أن كل من وحد الله من الخلق فقد وصفه بالصفات، وهذا جحود للتوحيد الذي هو عدم انحصار في الأوصاف، إذ لا يحتاج إلى وصف؛ فهو كل شيء، فإذا وحده فمعناه أنه وصفه بوصف، وحصره بوصف، وهذا شرك وليس بتوحيد، فالتوحيد يتضمن عدم انحصاره تحت الأوصاف، ولهذا قال: ما وحد الله من واحد إذ كل من وحده جاحد فكل من وحد من الخلق جاحد لحقيقة توحيده؛ لأنه يشاهد نفسه ويشاهد ربه، وهذه تثنية، ولأنه وصفه فجعله محصوراً، وهو لا يدخل تحت الأوصاف.
وقوله: (توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد) أي: كل من ينطق من البشر بنعت الله فنطقه ونعته عارية استعارها من الله، وهي مردودة على صاحبها كما تسترد العواري، وهذه العارية ترده إلى مالكها الحق وهو الله! فهذا التوحيد عارية أعارك الله إياها، ووحدة الله المطلقة من جميع الوجوه تبطل هذه العارية وتردها إلى مالكها الحق وهو الله، فيسقط المخلوق.
وقوله: (توحيده إياه توحيده) يعني: توحيده الحقيقي هو توحيد نفسه لنفسه، هذا هو التوحيد، فتوحيده إياه توحيد حقيقي، وهو توحيده لنفسه بنفسه، فلا تثنية، ولا تعدد، فهو الموحِد وهو الموحَد، ولا رسم ولا شرح ولا مكون ولا مخلوق.
وقوله: (ونعت من ينعته لاحد) يعني: كل من ينعت الله فهو ملحد؛ لأنه أسند إلى ما لا يقوم به إسناده، ووصفه بما لا يليق به وصفه؛ فإن عين الأولية في الله تأبى نطق الحدث، فالله هو الأول، فعين الأولية تأبى أن ينطق كل مخلوق بما ينطق، فإذا نطق يكون ملحداً.
ومحض التوحيد عند هؤلاء الملاحدة يأبى أن يكون للسوى أثر البتة، أي: ما سوى الله، فمحض التوحيد يأبى أن يكون للسوى أثر، فمحض التوحيد عند هؤلاء الملاحدة هو القول بوحدة الوجود، فهذه الأبيات تقرر مذهب وحدة الوجود لخاصة الخاصة، حيث قال: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد فهؤلاء هم خاصة الخاصة يسمون أنفسهم: أهل التحقيق، وليس عندهم طاعات ولا معاص ولا عمل، فالوجود عندهم واحد.
فالصوفية يقسمون الناس إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: العامة، ومن العامة جميع الأنبياء والمرسلين، وهؤلاء يسمونهم: أهل الشريعة، فلهم طاعات ولهم معاص، ويحرم عليهم الشرك، ويجب عليهم أن يوحدوا الله، ويخلصوا له العبادة، ويأتمروا بالأوامر وينتهون عن النواهي.
الطائفة الثانية: أهل الحقيقة الخاصة، وهؤلاء قد ارتفعوا دريجة -كما ذكر العلامة ابن القيم - فصارت المعاصي كلها في حقهم طاعات، وسقطت عنهم التكاليف، واكتفوا بالشهود والنظر إلى ربوبية الله ومشيئته، وشمول قيوميته، وانفراده بخلق الأشياء، وألغوا صفاتهم وأفعالهم وجعلوها صفات لله، فسقطت عنهم التكاليف، فصار جميع ما يصدر منهم طاعات.
ثم يرتفعون درجة أخرى فيصلون إلى الطائفة الثالثة، وهم أهل وحدة الوجود، وهم خاصة الخاصة، ويسمون أنفسهم: أهل التحقيق، وهؤلاء ليس عندهم طاعات ولا معاص أبداً؛ لأن الوجود واحد، فالعبد هو الرب والرب هو العبد.
إذاً: الصوفية يفنون في توحيد الربوبية حتى يصلوا إلى القول بوحدة الوجود، ولا يسلكون طريق توحيد العبادة والعياذ بالله، كما أن كثيراً من أهل النظر يظن أن توحيد الربوبية هو نفي العبادة، ومن ذلك الصوفية الذين يفنون في توحيد الربوبية، ويرون أن الفناء هو النهاية، وأن الشهود في هذا هو الفناء، وهو نهاية التوحيد، وهذا هو خلاصة التوحيد عند هؤلاء الملاحدة، نسأل الله السلامة والعافية.