الشبهة التي حصلت للقدرية هي أنهم قالوا: لو قلنا: إن الله هو الذي يخلق فعل العبد لكان ذلك وصفاً لله بالظلم، بحيث إن الله خلق المعصية وعذب عليها، فصار ظالماً، وهذه شبهة فاسدة، لأن الله تعالى هو الخالق، كما قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الرعد:١٦]، وقال تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:٢]، فلا يكون في هذا الكون شيء إلا ما أوجده الله وخلقه.
والذي ينسب إلى الله سبحانه وتعالى هو الخلق، والخلق مبني على الحكمة، فالله تعالى له حكم وأسرار في الخلق، والذي ينسب إلى العبد هو المباشرة والفعل والتسبب، فالفعل من المعصية والكفر خلقه الله لحكم وأسرار، فهو شر بالنسبة إلى العبد؛ لأن العبد هو الذي كسبه وباشره، فعذب عليه، لكن الله خلقه لحكم، فالذي ينسب إلى الله هو الخلق، والخلق مبني على الحكمة، فلا يكون شراً بالنسبة إلى الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(والشر ليس إليك) يعني: الشر البحت الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره ليس إليك يا الله، ولا يوجد في الكون شر محض، بل جميع الشرور الموجودة في الكون شرور نسبية، فالعبد إذا فعل المعصية والكفر كان فعله شراً بالنسبة إليه؛ لأنه فعلها وباشرها وعذب عليها، لكن الله خلقها، والذي ينسب إلى الله هو الخلق، والخلق مبني على الحكمة، فلا يكون شراً.
فمن الحكم والأسرار في خلق الكفر والمعاصي: ظهور العبادات المتنوعة، كعبودية الجهاد في سبيل الله، وعبودية الولاء والبراء، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان الناس كلهم مؤمنين فأين ستظهر عبودية الجهاد في سبيل الله؟! وأين ستظهر عبودية الولاء والبراء؟! وأين ستظهر عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وأين ستظهر عبودية الدعوة إلى الله؟! وأين ستظهر عبودية الصبر؟! وأين ستظهر عبودية التوبة؟! وقد يتوب الله على هذا العبد فتكون حاله أحسن من حاله قبل المعصية.
فالله تعالى خلق الكفر والمعاصي لحكم وأسرار، فلا تكون شراً بالنسبة إليه، لكنها تكون شراً بالنسبة إلى العبد.
أرأيت -ولله المثل الأعلى- المطر الغزير الذي ينفع الله به البلاد والعباد، ويحيي الله به الأرض بعد موتها، فالله تعالى جعل فيه الحياة لجميع الناس والأنعام والأرض، فنفعه عام، ولا أحد ينكر هذا، لكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فقد تتهدم بعض المنازل، وقد يموت منه بعض الناس أو يغرق، فهل نقول: إن هذا المطر شر أم خير؟ نقول: هو خير، لكنه شر بالنسبة إلى الذين تهدمت منازلهم، فهو شر بالنسبة إليهم فقط، أما المطر فهو خير نفع الله به البلاد والعباد.
وكذلك المعاصي والكفر، خلقها الله لما فيها من الحكم، وليست شراً بالنسبة إلى الله؛ لأن خلقها مبني على الحكمة، ولكنها شر بالنسبة إلى العبد؛ لأنه هو الذي كسبها وفعلها وباشرها، فصارت وبالاً عليه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:(والشر ليس إليك) يعني: الشر المحض الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره لا يوجد، ولا يوجد في الدنيا شر محض، فجميع الشرور الموجودة شرور نسبية؛ لأن الشر المحض هو الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره، وهذا لا يجوز على الله تعالى.