للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[استدلال الجهمية على التعطيل والرد عليهم]

وأصل شبهة المعطلة والجهمية في نفي الصفات أنهم قالوا: لو أثبتنا الأسماء والصفات لله لشبهنا الله بالموجودات، والموجودات لها أسماء وصفات، وكذلك المخلوقات، فهذا ابن آدم عالم، فالذي يقول: إن الله يعلم فقد شبهه بالمخلوق، وإذا وصفنا الله بالقدرة، وصفنا المخلوق بالقدرة فقد شبهناه، ففروا من التشبيه والتجسيم فقالوا: ننفي الأسماء والصفات حتى لا نشبه الله بخلقه.

وقد ناقشهم أهل العلم -كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره- فقالوا: يلزمكم شر مما فررتم منه أنتم، فلماذا نفيتم الأسماء والصفات؟ فقالوا: نفيناها حتى لا نشبه الله بالمخلوقات.

فقيل لهم: إذا نفيتم الأسماء والصفات عن الله فقد شبهتم الله بالمعدومات، فالمعدومات هي التي ليس لها أسماء ولا صفات، والتشبيه بالمعدومات أقبح من التشبيه بالموجودات.

أرأيت كيف فروا من شيء فوقعوا في شر مما فروا منه! فقال غلاتهم: نحن ننفي النفي وننفي الإثبات، ننفي النفي حتى لا يلزمنا التشبيه بالمعدومات، وننفي الإثبات حتى لا يلزمنا التشبيه بالموجودات، ونقول: لا هو موجود ولا ليس بموجود، ولا عالم ولا ليس بعالم، ولا حي ولا ليس بحي، ولا قدير ولا ليس بقدير، فننفي النفي وننفي الإثبات، فقال لهم العلماء: إذا نفيتم النفي والإثبات وقعتم في التشبيه بالممتنعات، والتشبيه بالممتنع أقبح من التشبيه بالمعدوم، والممتنع هو المستحيل؛ لأن الذي ينفى عنه النفي والإثبات مستحيل ممتنع، فإنه يمتنع أن ينفى عن الشيء الوجود والعدم، فلا يقال: لا موجود ولا معدوم، فيمتنع نفي الوجود ونفي العدم؛ لأن نفي الوجود والعدم يلزم منه رفع النقيضين ونفي النقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان عند جميع العقلاء، فإذا نفيتم النفي ونفيتم الإثبات وقعتم في التشبيه بالممتنع والمستحيل، ووقعتم في التشبيه بما اجتمع في النقيضان من الممتنعات، والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان.

والنقيضان هما اللذان لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، مثل الوجود والعدم، فلا يمكن أن تقول: هناك شيء موجود لا موجود ولا معدوم، بل إما موجود وإما معدوم، فإذا ثبت الوجود انتفى العدم، وإذا ثبت العدم انتفى الوجود، فلا يجتمع النقيضان ولا يرتفعان، وهذا معروف عند جميع العقلاء.

وأما الضدان فلا يجتمعان، وقد يرتفعان، فهناك فرق بين النقيضين وبين الضدين، فالضدان لا يجتمعان لكن قد يرتفعان، مثل: السواد والبياض، فهما ضدان، لكن قد يرتفعان، فيكون الشيء لا أسود ولا أبيض، بل قد يكون أحمر أو أخضر أو أزرق، فهما يرتفعان، بخلاف النقيضين، فلا يجتمعان ولا يرتفعان.

والمثلان: الشيئان المتماثلان، والخلافان: المتخالفان، مثل: العلم والحركة، هذا خلاف هذا.

فقال غلاة الجهمية: لا يلزمنا التشبيه بما اجتمع في النقيضين من الممتنعات إلا إذا نفينا الصفات عن محل قابل لهما، وهذه الصفات، تتقابل تقابل العدم والملكة، ولا تقابل السلب والإيجاب، فيقولون: لا يلزمنا التشبيه بما اجتمع في النقيضين من الممتنعات إلا إذا نفيناه عن محل قابل لهما، والله ليس قابلاً للصفات، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت؛ لأنه ليس قابلاً لهما، فكما أن الجدار لا يوصف بالعمى والبصر والحياة والموت فكذلك الله لا يوصف بالصفات؛ لأن الله ليس قابلاً للصفات من الأساس، فلا يلزمنا التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات إلا إذا نفيناه عن محل قابل لهما، فهذه الصفات تتقابل تقابل العدم والملكة، وتقابل وجود الصفات ونفي الصفات، لا تقابل السلب والإيجاب، فنحن نقول: إن الرب ليس قابلاً للصفات حتى يلزمنا هذا، كما أن الجدار لا يوصف بالعمى والبصر والحياة والموت، فكذلك الله لا يوصف.

فقال أهل الحق نجيبكم عن هذه الشبه بأجوبة: الجواب الأول: أننا لا نسلم بعدم المقابلة في الوجود والعدم، بل الوجود والعدم متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فلا يمكن أن ينفى الوجود والعدم عن شيء، فكل شيء لا ينفى عنه وجود، بل كل شيء موجود، ولا ينفى عنه وجود العدم، فإذا نفيت الوجود ثبت العدم، وإذا نفيت العدم ثبت الوجود، وإذا أثبت الوجود انتفى العدم، وإذا أثبت العدم انتفى الوجود، فهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء.

والجواب الثاني: أننا نقول: إن قولكم -أيها الجهمية الغلاة-: إن الله لا يوصف بالصفات، كما أن الجدار لا يوصف بالعلم والجهل والحياة والموت، هو اصطلاح اصطلحتم عليه، والاصطلاح لا يكون دليلاً على نفي الحقائق العلمية، فهو اصطلاح باطل وفاسد ينافي الحقائق العلمية، والاصطلاح لا يبطل الحقائق العلمية، فإن الله تعالى سمى الجماد ميتاً ونفى عنه الحياة وهو جماد، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:٢٠ - ٢١]، فالأصنام سماها أمواتاً ونفى عنها الحياة، فهي توصف بالحياة وتوصف بالموت وهي جماد، فقولكم: إن الجدار لا يقال له: حي ولا ميت باطل، وهذا اصطلاح تبطله الحقائق العلمية، والاصطلاح الفاسد لا يكون دليلاً على نفي الحقائق العلمية، فقولكم: إن الله ليس قابلاً للصفات كما أن الجدار ليس قابلاً للحياة والموت باطل، فنقول: إن الله ليس قابلاً للعلم والجهل حتى نقول: عالم وجاهل، وليس قابلاً للحياة والموت، فهذا اصطلاح فاسد تبطله الحقائق العلمية، والاصطلاح الفاسد لا يقضي على الحقائق العلمية، بل الحقائق العلمية هي التي تقضي على الاصطلاح الفاسد.

ويقال لكم أيضاً جواب ثالث، وهو أن الجمادات التي ينفى عنها العمى والبصر، وينفى عنها العلم والجهل أنقص من الحيوانات التي تقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجدار الذي لا يقبل الاتصاف بالعمى والبصر، والجاهل الذي يقبل الاتصاف بالعلم أكمل من الجدار الذي لا يقبل الاتصاف بالعلم والجهل، فأنتم فررتم من تشبيه الله بالحيوانات الناقصة التي تقبل صفات الكمال إلى تشبيهه بالجمادات التي لا تقبل واحدة منها، فالتشبيه بالحيوان الذي يقبل الصفة من صفات الكمال أكمل من التشبيه بالجماد الذي لا يقبل واحدة منها، ففررتم من تشبيهه بالحيوانات التي تقبل صفات الكمال إلى تشبيهه بالجمادات التي لا تقبل شيئاً من صفات الكمال.

وهناك جواب رابع يقال لكم: وهو أنكم نفيتم عن الله قبول الوجود والعدم، وهذا النفي أعظم امتناعاً من نفي الوجود والعدم، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم أعظم مما نفيت عنه الوجود والعدم، فهما ممتنعان مستحيلان أحدهما أشد استحالة من الآخر، فإذا قيل: هذا الشيء لا موجود ولا معدوم كان هذا مستحيلاً، فيستحيل أن يكون الشيء موجوداً وتنفي عنه الوجود والعدم، فتقول: هذا الشيء لا موجود ولا معدوم، ولكن هناك مستحيل أعظم منه، وهو الذي تنفي عنه قبول الوجود والعدم، فإذا قلت: هذا شيء لا موجود ولا معدوم فهذا مستحيل، وإذا قلت: هذا شيء لا يقبل الوجود والعدم فهذا أعلى درجات الاستحالة، وهم قالوا: إن الله لا يقبل الوجود والعدم، فشبهوه بالمستحيل الأعظم، فنفوا عن الله قبول الوجود والعدم الذي هو أعظم امتناعاً من نفي الوجود والعدم، فجعلوا وجود الله الواجب سبحانه وتعالى الذي وجوده أكمل من وجود كل موجود غاية الممتنعات وغاية المستحيلات، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

والله سبحانه وتعالى وجوده أظهر من كل موجود، وكل موجود لا بد من أن يرى، وليس هناك موجود لا يرى، وكلما كمل وجود الشيء كان أحق بأن يرى من غيره، والله تعالى أكمل وجوداً، ووجوده أكمل من وجود كل موجود، فهو سبحانه وتعالى الحي القيوم، قال سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥] أي: القائم بنفسه المقيم لغيره سبحانه وتعالى، ولكن امتنعت وانتفت رؤيته في الدنيا؛ لأن البشر لا يتحملون رؤية الله عز وجل في الدنيا، ولا يثبتون لرؤية الله، ولهذا لما سأل موسى ربه أن يريه نفسه فقال: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣] قال الله له: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:١٤٣]، وإذا كان الجبل لم يثبت أمام رؤية الله واندك، فكيف بالبشر الضعيف الناقص؟! فلا يمكن أن يتحمل إنسان رؤية الله ولن يثبت لها، وقد ثبت هذا في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>