[أنواع التوحيد]
توحيد الألوهية يسمى توحيد العبادة، ويسمى توحيد القصد والطلب، ويسمى التوحيد الإرادي الطلبي، أما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات فيسمى توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي، أو التوحيد الخبري، أو التوحيد القولي الاعتقادي؛ لأن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات الأصل فيهما أنهما نوع واحد؛ لأنه توحيد يتعلق بإثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإثبات عموم قضائه وقدره ومشيئته، فهو نوع واحد، لكن لما كثر الاختلاف حول الأسماء والصفات، وأثيرت الشبه فصل عنه، فصار توحيد الأسماء والصفات اسماً مستقلاً، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والعلامة ابن القيم أن التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد، ولا مشاحة في الاصطلاح، وجعل توحيد المعرفة والإثبات هو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ويسمى التوحيد العلمي الخبري، ويسمى التوحيد القولي الاعتقادي.
والنوع الثاني: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الألوهية والعبادة، وهو التوحيد الإرادي الطلبي، ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: وأما التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فنوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالنوع الأول هو توحيد المعرفة والإثبات، أي: إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإثبات عموم قضائه وقدره وعموم مشيئته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وأول سورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول (الم تنزيل) السجدة، كما دل عليه قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:١٣٦]، وكما دلت على ذلك سورة الإخلاص بكمالها، وفي أول سورة الحديد بيان هذا التوحيد توحيد المعرفة والإثبات، قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد:١ - ٢]، وفي آخر الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:٢٢] إلى آخرها، وفي أول سورة (ألم تنزيل) {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:٤]، وسورة (قل هو الله أحد) بكمالها.
النوع الثاني: التوحيد الطلبي الإرادي، وقد تضمنته ودلت عليه سورة: (قل يا أيها الكافرون) بكمالها، وقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٦٤]، وكما في أول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وجملة سورة الأنعام.
ثم يقول العلامة ابن القيم: وكل سورة في القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا هو التوحيد العملي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بحقوقه، فذلك من مكملات التوحيد وحقوقه، وإما خبر عن إكرامه لأوليائه وما حصل لهم في الدنيا من الكرامة والنصر والتأييد، وما يحصل لهم في الآخرة من العاقبة الحميدة والكرامة، فهذا جزاء أهل التوحيد، وإما خبر عن أهل الشرك، وما يحصل لهم في الدنيا من الهزيمة والخذلان، وما يحصل لهم في الآخرة من العذاب السرمدي، فهذا جزاء من خرج عن التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وفي الشرك وأهله وبيان الشرك والنهي عنه وجزاء أهله.
فتوحيد العبادة هو التوحيد المطلوب، والغاية المرضية لله عز وجل، والذي من أجله خلق الخلق، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، وخلق من أجله الجنة والنار، وافترق الناس إلى شقي وسعيد، فجدير بالعاقل اللبيب أن يعتني بهذا الأمر، وأن يهتم به، وأن يعرف معناه وحقيقته، وأن يعرف ما يضاده وينافيه أو ينافي كماله الواجب حتى يعبد الله على بصيرة، وحتى يكون مؤمناً حقاً.
جدير بك -أيها المسلم ويا طالب العلم- أن تعتني بهذا التوحيد، وأن تعرف حقيقته، فهو توحيد خلقك الله من أجله، وأرسل من أجله الرسل، وأنزل من أجل الكتب، وهو سبب السعادة، وتركه الشقاوة، جدير بك أن تعتني به، وأن تتعرف على معناه وحقيقته، وأن تعرف ما يضاده وينافيه، أو ينافي كماله الواجب.
فالتوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، وإخلاص التعلق لله، وأن تفرد الله بجميع أنواع العبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج، وبر للوالدين، وصلة للرحم، وجهاد في سبيل الله، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله، ودعاء وخوف ورجاء ونذر وتوكل واستعانة واستغاثة وطواف، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، واحذر أن يكون في عملك شرك، حتى لا ينتقض عليك هذا التوحيد الذي من أجله خلقك الله، فهذا هو التوحيد وضده الشرك والكفر والنفاق، فالذين انحرفوا عن هذا التوحيد هم المشركون والكفار والمنافقون بجميع أصنافهم وطبقاتهم، انحرفوا عن هذا الترتيب.
فالتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، وإخلاص التعلق لله، كما قال الله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]، {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:١٤]، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:٣]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:٥]، وهذا هو الأمر الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب، وضده -وينافيه- الشرك، والكفر، والنفاق، وإذا كان الشرك لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر فإنه ينافي كماله، وكذلك الكفر إذا كان أصغر فإنه ينافي كماله، وكذلك النفاق إذا كان أصغر فإنه ينافي كماله الواجب.