[بيان معاني التوحيد]
افتتح الإمام الطحاوي رحمه الله رسالته الطحاوية بقوله رحمه الله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره].
فتوحيد الله هو اعتقاد أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره، فالله تعالى واحد لا شريك له في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في إلهيته واستحقاقه للعبادة، وهذا هو التوحيد، وهذا هو الإيمان بالله، وهو الاعتقاد بوجود الله، وأن الله سبحانه وتعالى موجود فوق السماوات وفوق العرش، وأن له ذاتاً، وأنه قائم بنفسه سبحانه وتعالى، وهو الحي القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥]، فهو الحي سبحانه وتعالى، وله ذات كريمة لا تشبه الذوات، فهو فوق العرش سبحانه وتعالى مستو عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته.
فالملاحدة الذين لم يثبتوا وجود الله من أكفر الناس، وكذلك الاتحادية الذين يقولون: إن الوجود واحد، والخالق والمخلوق واحد، فهؤلاء ما آمنوا بوجود الله، وكذلك الفلاسفة الذين أثبتوا وجود الله في الذهن، وكذلك المعطلة الذين نفوا الأسماء والصفات، ولم يثبتوا لله اسماً ولا صفة، ولا يمكن أن توجد ذات ليس لها اسم ولا صفة، وليس كذلك إلا العدم، فلابد من الإيمان بوجود الله، وأنه سبحانه وتعالى فوق العرش وفوق السماوات.
ولابد من الإيمان بأن الله هو الرب وغيره مربوب، وأنه الخالق وغيره مخلوق، وأنه المالك وغيره مملوك، وأنه المدبِر وغيره المدبَر، وكذلك سائر أفعاله سبحانه وتعالى، فهذا هو توحيد الربوبية.
وليس هناك خالق إلا الله، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢]، وليس هناك رب إلا الله، فالله تعالى رب الأرباب، ورب العالمين، ورب الناس يربيهم بنعمه.
وهو المدبر، المحيي المميت، المتصرف، منزل المطر، مسبب الأسباب، وهذه هي أفعال الرب، ولذا كان توحيد الله بأفعاله هو أن تعتقد بأن الله هو الخالق الرازق، المالك، المدبر، المحيي المميت، المتصرف، وهذا هو توحيد الربوبية.
وكذلك توحد الله في أسمائه وصفاته، بأن تؤمن وتعتقد وتثبت لله الأسماء والصفات، وليست تلك الأسماء والصفات من عندك، بل المراد ما أثبته الله لنفسه في كتابه وفي السنة على لسان رسوله، ولا نخترع أسماء ولا صفات من عندنا، فإن الأسماء والصفات توقيفية، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:١٨٠]، وقد أثبت لنفسه السمع، وأثبت لنسفه البصر، فتثبت له السمع والبصر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:٢٠]، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:١٣٤]، وأثبت لنفسه العلم، فتثبت له العلم، قال تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٨٢]، {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:١٢].
وأثبت لنفسه الرضا، فتثبته، قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:١١٩].
وأثبت لنفهس الكره، فتثبته، قال تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:٤٦].
وأثبت لنفسه السخط فقال: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة:٨٠]، فتثبت له السخط كما يليق بجلاله وعظمته، وهكذا نثبت جميع الأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة، ونؤمن بها، ونعتقد أن الأسماء حسنى، وأن الصفات عليا، وأن له الكمال، وأنه اتصف بها حقيقة كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نعرف الكيفية ولا الكنه، ولا نقول: هي صفات كصفاتنا، بل هي صفات تليق به، فالخالق له صفات تليق به، والمخلوق له صفات تليق به.
ولابد من الإيمان بإلهية الله، فتعتقد أن الله هو المعبود المستحق للعبادة، وتتقرب إلى الله وتعبده بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله، فتمتثل الأوامر وتجتنب النواهي، وهذا يسمى توحيد الله بأفعال العباد، ويسمى توحيد العبادة، فتوحد الله بأفعالك أنت من صيام وصلاة وزكاة وحج وبر للوالدين وصلة للرحم وغير ذلك.
فهذا هو توحيد الله بأفعال العباد، وهو الغاية المرضية لله تعالى، وهو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء والرسل مع أقوامهم، بخلاف توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فإنهما توحيدان فطريان، وهما وسيلة، والغاية أن توحد الله وتعبده.
فإذا عرفت الله بأسمائه وصفاته وأفعاله فإنك تخصه وتفرده بالعبادة، وهذا هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء والرسل مع أقوامهم، فهم كانوا يقرون بربوبيته وبأنه الخالق المالك المدبر، ويقرون في الجملة بأسمائه وصفاته، لكن أنكروا أن يكون مخصوصاً بالعبادة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: كلمة واحدة لو قلتموها لملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، فقالوا: لنعطينكها وأمثالها، فقال: قولوا: لا إله إلا الله، فنكص أبو جهل على عقبيه، وجعل ينفض يديه ويقول: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟! إن هذا لشيء عجاب، فكون المعبود واحداً أمر صعب وشاق عندهم، فالمعبودات متعددة، فبعض الكفار يعبدون اللات والعزى، واليهود يعبدون عزيراً، وهناك من يعبد النجم والقمر والشمس، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يخصوا الله بالعبادة، فقال: قولوا: (لا إله إلا الله) أي: لا معبود بحق إلا الله.
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، ولم يشرع حينئذٍ من شرائع الدين إلا الصلاة، فقد فرضت قبل الهجرة بثلاث سنين -في أصح أقوال أهل العلم- لعظم مكانتها، فلما هاجر إلى المدينة شرعت سائر الشرائع، فشرع الأذان، وشرعت الزكاة، وشرع الصوم، وشرع الحج، وشرعت الحدود، لكن العقيدة هي أساس الدين وأساس الملة.
ونوح عليه الصلاة والسلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى التوحيد، ويقول: قولوا: لا إله إلا الله، وصبر هذه المدة العظيمة الطويلة وهم لا يزدادون إلا عتواً وعناداً ويسخرون منه ويقولون: إنه مجنون، ويوصي بعضهم بعضاً بالكفر بنوح عليه الصلاة والسلام، حتى إن الأجداد يوصون الأحفاد بالكفر بنوح والعياذ بالله، ولم يؤمن معه في هذه المدة الطويلة إلا القليل، كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠].
وفي آخر الأمر أوحى الله إليه أنه لا حيلة فيهم، وأنه لن يؤمن أحد وراء من سبق، قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:٣٦]، فعند ذلك دعا عليهم، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٦ - ٢٧].
إذاً: فتوحيد العبادة وتوحيد الإلهية هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم، وهو أول واجب على المكلف، وهو الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، فهذا أول واجب وأول منازل الطريق، وأول ما يسير فيه السائر إلى الله عز وجل، فيعبد الله ويوحد الله، وهو أول دعوة الرسل، وأول الدين وآخره وظاهره وباطنه، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٦٥]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٧٣]، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٨٥]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥].
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله).
إذاً: أوجب الواجبات، وأول واجب، وأول مقام يسير فيه السالك إلى الله عز وجل هو توحيد الله وإفراده بالعبادة، وإخلاص الدين له، ولهذا خلق الله الخلق، وبهذا بعث الله الرسل، وبهذا أنزل الله الكتب ليعبد وليوحد.
ومعرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله وسيلة إلى عبادته وإفراده بالعبادة، فإذا عرفت الله بأسمائه وصفاته وأفعاله عند ذلك تخصه بالعبادة، وتفرده بها.
فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، ولهذا احتج الله سبحانه وتعالى على الكفار بأنهم وحدوا الله في ربوبيته، ويجب عليهم أن يوحدوا الله في عبادته، قال سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْض