[القائلون بكفر تارك الصلاة وأدلتهم]
أما القول الثاني -وهو القول بأن تارك الصلاة يكفر كفراً أكبر يخرج من الملة، ويوجب الخلود في النار- فهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول عبد الملك بن حبيب من المالكية، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام الشافعي، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه، وحكاه الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله عن أربعة من الصحابة: عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة، وحكاه عبد الحق الإشبيلي عن جماعة كثيرين من الصحابة أيضاً، وهو قول سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبي عمرو الأوزاعي وإبراهيم النخعي وأيوب السختياني وإسحاق بن راهويه وغيرهم في جماعة من العلماء ومن السلف، واختار هذه الرواية من الحنابلة أبو إسحاق بن شاقلا وابن عقيل وابن حامد، فهؤلاء السلف كلهم ذهبوا إلى أن تارك الصلاة يكفر كفراً أكبر يخرج من الملة ويخلد في النار، فيكون من الكفر العملي الذي ينافي الإيمان ويناقض الإيمان بالكلية، وقد نقل عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة وقال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
إذاً: فالصحابة أجمعوا على كفر تارك الصلاة، كما نقله عبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله.
وأدلة القائلين بكفر تارك الصلاة أدلة كثيرة من القرآن ومن السنة، فمن القرآن قول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:٥] ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنَّه لا يخلى سبيل المشركين حتى يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فمفهومه أنهم إذا لم يتوبوا من الشرك، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، فلا يخلى سبيلهم، بل يقاتلون، فدل على كفر تارك الصلاة، وأما تارك الزكاة فإخراجه في الحديث السابق، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) فبقي المشرك وتارك الصلاة، فدل على أن تارك الصلاة لا يخلى سبيله؛ لأنه كافر، ومن الأدلة قول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:١١]، فعلق الله تعالى الأخوة في الدين على ثلاثة أشياء: على التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فدل على أنه إذا لم يصل فليس أخاً لنا في الدين؛ لكفره.
ومن الأدلة قول الله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم:٣١ - ٣٢] فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:٣١] ومفهومه أن من لم يقم الصلاة فهو من المشركين.
وقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:٤٨] وهذا وصف الكفار، فمن لم يركع ولم يسجد لله فليس بمسلم.
وأخبر سبحانه وتعالى عن الكفار أنهم يُسألون في النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:٤٢] فذكروا أوصافاً أولها ترك الصلاة {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:٤٣ - ٤٤]، فترك الصلاة من أوصاف أهل النار التي استحقوا بها دخول النار.
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:١٥]، والصلاة من أعظم ذكر الله، فمن لم يسجد فليس بمؤمن، فقد أخبر الله أن المؤمن هو الذي إذا ذكر بآيات الله خر ساجداً، فدل على أن من لم يسجد لله فليس بمسلم.
وقال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:٤٢ - ٤٣]، فأخبر سبحانه وتعالى أنهم يدعون يوم القيامة إلى السجود فلا يستطيعون؛ لأنهم دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا، فدل على كفرهم.
ومن السنة: ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ترك الصلاة حداً فاصلاً بينه وبين الإسلام، فإذا أتى بها فهو مسلم، وإذا تركها فليس بمسلم، والبينية حد فاصل تفصل بين الشيئين، فبين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، فالبينية تفصل هذا من هذا، فترك الصلاة كفر، وفعل الصلاة إيمان، فمن لم يصل فليس بمؤمن، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عبر بالكفر، فقال: (بين الرجل وبين الكفر) و (أل) للاستغراق، ولهذا قال في القاموس: إن المراد به الكفر المستغرق وهو الكفر المخرج من الملة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: المراد به الكفر الأكبر؛ لأنه أتى بلفظ (الكفر)، بخلاف الكفر المنكر، مثل: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) فالكفر المنكر لا يخرج من الملة، أما الكفر المعرَّف؛ الذي جاء بـ (أل)، (بين فإنه يدل على أن المراد به كفرٌ أكبر مستغرق؛ لأن (أل) للاستغراق.
ومن الأدلة أيضاً: ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فجعل ترك الصلاة كفراً، وهي العهد الذي بيننا وبين غيرنا، فمن تركها فليس منا؛ لأنه كافر، ومن صلى فهو منا.
ومن الأدلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في ترك القتال الشهادة لله بالوحدانية، والشهادة لنبيه بالرسالة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقال: (عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، فدل هذا على كفر تارك الصلاة.
ومن الأدلة ما ثبت في صحيح البخاري من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بكروا بصلاة العصر، فمن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) والذي يحبط عمله هو الكافر، فدل على أن من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله بكفره، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢١٧]، وبقية الصلوات حكمها حكم صلاة العصر، وإنما خصت العصر بالذكر لشرفها وفضلها.
ومن الأدلة -أيضاً- ما ثبت في صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟! قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) فنهى عن قتال الأمراء إذا أقاموا الصلاة.
وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج عن الأمراء وولاة الأمور ما معناه: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) فنهى عن الخروج إلا إذا وجد الكفر البواح، فإذا ضممت هذا الحديث إلى حديث عوف بن مالك الأشجعي: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) فمفهومه أنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار يقاتلون، وفي الحديث الآخر نهى عن قتالهم إلا إذا وجد الكفر البواح، فدل على أن ترك الصلاة كفر بواح، وهذا من أقوى الأدلة في كفر تارك الصلاة.
فجمهور فقهاء المتأخرين الذين يقولون: إن تارك الصلاة لا يكفر مادام مصدقاً، ومعه أصل التصديق بماذا يجيبون عن هذه الأدلة التي استدل بها هؤلاء العلماء؟ يجيبون عنها فيقولون: هذه الأدلة محمولة على كفر النعمة لا كفر الجحود، أو أن المراد: قارب الكفر، يعنون قوله: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فتأولوا فصار المعنى: قارب الكفر، أو أن ذلك محمول على كفر النعمة، مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:١١٢] فتارك الصلاة كافر بالنعمة، لكن لا يخرج من الملة، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) فالطعن والنياحة كفر لا يخرج من الملة، فكذلك تارك الصلاة، ومثل قوله: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر)، ومثل قوله: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم الرمي ثم تركه فهو نعمة كفرها)، ومثل قوله: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) فمن رغب عن الانتساب إلى أبيه فقد كفر، فهذا كفر لا يخرج من الملة، ومثل قول ابن عباس لما سئل عن ا