[منهج السلف في باب الأسماء والصفات وأسسه]
ومنهج السلف في باب الأسماء والصفات أنهم يثبتون لله من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل, هذا هو منهج السلف في باب الأسماء والصفات.
ومذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم في الأسماء والصفات ينبني على أسس سليمة ويرتكز على قواعد متينة ودعائم، فمذهب السلف في باب الأسماء والصفات مذهب ثابت له دعائم وله ركائز يرتكز عليها، فلا بد لطالب العلم من أن يكون على إلمام ومعرفة بهذه الأسس التي يقوم عليها مذهب السلف الصالح في باب الأسماء والصفات.
فالأساس الأول من الأسس التي يقوم عليها مذهب السلف في باب الأسماء والصفات: أن أسماء الله وصفاته توقيفية، ومعنى (توقيفية) أن إثبات الأسماء والصفات موقوف على ما وردت به النصوص، فما جاء في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات مثبتاً لله وجب إثباته، وما جاء في الكتاب والسنة منفياً عن الله وجب نفيه، وما لم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته فإنه يجب التوقف فيه، مثل: الجسم والحيز والعرض والجهة وغير ذلك من الألفاظ التي ابتدعها أهل البدع، فهذه الألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة، فلا تثبت ولا تنفى، ولكن من أطلقها نفياً وإثباتاً فإنه يُستفصل ويُسأل عن مراده، فإن كان مراده معنىً صحيحاً قبل المعنى ورد اللفظ، ويعبر بلفظ سليم؛ لأن المعنى سليم، لكن اللفظ غير سليم، وإن كان المعنى الذي أراده غير سليم فإنه يرد اللفظ والمعنى جميعاً.
إذاً: الأساس الأول والقاعدة الأولى من القواعد التي ينبني عليها مذهب السلف في باب الأسماء والصفات: أن أسماء الله وصفاته توقيفية.
الأساس الثاني: أن ما وصف الله عز وجل به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق على حقيقته ليس فيه ألغاز ولا تعمية، بل هو حق على حقيقته، فتثبت ألفاظ الصفات ومعانيها التي دلت عليها هذه الأوصاف، ولا ينفى إلا الكيفية، فالكيفية هي اتصاف الرب بالصفات استأثر الله بعلمها، أما ألفاظ الصفات ومعانيها فهي معلومة، كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
إذاً: المنفي هو الكيفية فقط، أما ألفاظ الصفات ومعانيها فهي معلومة، فهي من قبيل المحكم لا من قبيل المتشابه، ومن نسب إلى السلف أنهم لا يعرفون المعنى وأنهم يفوضون معاني الصفات فقد كذب عليهم، فليس هذا مذهب السلف، بل مذهب السلف أنهم يثبتون الألفاظ والمعاني، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بتدبر القرآن كله، ولم يستثن شيئاً، وحضنا على تعقله وتفهمه، كما قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤]، وقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢] وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:٢٩] ولم يقل: إلا آيات الصفات فلا تتدبروها؛ فإن معانيها غير معلومة.
بل معانيها معلومة، فنحن نعرف أن السمع غير البصر، وأن العلم ضد الجهل، والاستواء نعرف أن معناه الاستقرار والصعود والعلو والارتفاع؛ فهذه معانيها في اللغة، لكن كيفية استواء الرب مجهولة لنا لا يعلمها إلا هو، وهكذا كيفية علمه، وكيفية سمعه، وكيفية بصره.
الأساس الثالث من الأسس التي يقوم عليها مذهب السلف في باب الأسماء والصفات: أن إثبات الصفات لله إثبات بلا تمثيل للصفات ولا تكييف لها، فلا نقول: إن صفات الله مثل كذا أو كيفيتها كذا؛ لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات، فإثبات الصفات لله إثبات بلا تمثيل ولا تكييف.
الأساس الرابع: أن تنزيه الله عن النقائص والعيوب تنزيه بلا تعطيل.
فتنزيه الرب سبحانه وتعالى عن النقائص والعيوب تنزيه بلا نفي للصفات ولا تعطيل لها، ولا تأويل لمعانيها ولا تحريف لألفاظها عن مدلولها الذي دلت عليه، فالسلف الصالح لم يغلوا في الإثبات ولم يغلوا في النفي، بل تجنبوا الغلو في الإثبات، فلم يصلوا إلى التشبيه، وتجنبوا الغلو في النفي، فلم يصلوا إلى التعطيل، فهم وسط بين التشبيه والتعطيل، فسلموا من الإفراط والتفريط.
الأساس الخامس: أن الإجمال يكون في النفي، والتفصيل يكون في الإثبات، فالسلف يثبتون الصفات لله تعالى على وجه التفصيل، وأما النفي -نفي نقائص العيوب- فإنهم ينفونها عن الله على وجه الإجمال، كما في آية الكرسي في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] فأثبت (الحي القيوم)، وكما في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:١ - ٢] فالإثبات يكون تفصيلياً بأن نثبت جميع الصفات، فنثبت العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والرضا، والغضب، والعزة، والعظمة، والكبرياء، ونثبت جميع الصفات والأسماء التي وردت في الكتاب والسنة.
أما النفي فإنا ننفي على وجه الإجمال، كما نفى الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٤] وهذا مجمل، وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤]، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥].
ويجب أن يعلم أن النفي الوارد في باب الأسماء والصفات ليس هو النفي المحض الصرف، وإنما هو النفي الذي يتضمن إثبات ضده من الكمال، كما في قوله سبحانه: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] لكمال حياته وقيوميته، وقوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:٣] لكمال علمه، وقوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:٢٥٥] لكمال قوته واقتداره، وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] لكمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء، فليس هو نفياً محضاً، لكن يتضمن إثبات ضده من الكمال.
فالنفي ليس نفياً صرفاً، ولكنه نفي يتضمن إثبات ضده من الكمال، بخلاف النفي الصرف المحض، فإنه لا مدح فيه؛ لأنه يوصف به المعدوم، والمعدوم لا يمدح، وهذا مثل قول الشاعر يذم قبيلة من القبائل: قُبيلةٌ لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل فهو ينفي فيقول: ولا يغدرون بالذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل، ومقصده الذم، بدليل أنه صغرهم فقال: قُبيّلةٌ، وهذا للتحقير، يعني: لمهانتهم وضعفهم، فهم لا يغدرون لا لكمالهم، بل لكونهم عاجزين عن الغدر، وإلا فلو قدروا لغدروا، (ولا يظلمون الناس حبة خردل) لعجزهم، ولو قدروا لظلموا، فهذا نفي صرف، وهذا مذموم.
ومثل هذا قول الشاعر الآخر يذم قبيلته: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا يقول: إن قومي ليسوا من الشر في شيء ولو كان قليلاً، ومع ذلك يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة، فإذا ظلمهم أحد غفروا له، ويجزون بالإساءة إحساناً؛ لعجزهم وضعفهم، وذلك لأن هذا الشاعر الجاهلي سرقت إبله فاستنجد بقومه فلم ينجدوه، فقال: إنهم لا يستطيعون لضعفهم ومهانتهم، ولو كنت من قبيلة مازن لأنجدوني وأسعفوني، فيقول قبل هذه الأبيات: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا إذاً لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا فهم وإن كان عددهم كثيراً لا يستطيعون نجدته، فليسوا من الشر في شيء ولو كان قليلاً، ولذا قال: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً ومن إساءة أهل السوء إحسانا فهذا نفي محض صرف، وهذا لا يرد في باب الأسماء والصفات؛ فلا يرد النفي في باب الأسماء والصفات إذا كان صرفاً، بل النفي الذي يأتي في باب الأسماء والصفات هو نفي بتضمن إثبات ضده من الكمال، بخلاف النفي الصرف المحض كما في هذه الأبيات؛ فإنه لا مدح فيه، بدليل أنه يوصف به المعدوم، والمعدوم لا يمدح.