والفناء الثاني هو فناء عن شهود السوى، وهذه هي الدرجة المتوسطة بين ملاحدة وحدة الوجود وبين أهل الشريعة، وهي التي بنى عليها أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الصوفي الحنبلي كتابه (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين)، الذي شرحه العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، فحقيقة هذا الفناء غيبة أحدهم عن سوى مشهوده.
فمشهوده هو الله، فلا يشاهد إلا الله، ويغيب عما سواه، بل غيبته أيضاً عن شهوده نفسه، فيقول: أنا لا أشاهد إلا الله، ولا أنكر وجود المخلوقات، لكن أغيب عنها وأتناساها حتى لا تشوش علي، فأنا أوجه شهودي لله فقط، أما كوني أنظر إلى سماوات وأرضين وآدميين وحيوان ونبات فإنه يشوش علي، وأنا أريد أجمع همتي على الله، فلا أشهد إلا الله، وأغيب عما سواه، فيغيب بموجوده عن وجوده، ويغيب بمعبوده عن عبادته، ويغيب بمذكوره عن ذكره، فهو يغيب بالله عن المخلوقات فلا يراها، ويتناسى العبادة من أجل أنه لا يرى إلا المعبود فقط.
وقد يقوى شهود القلب بمحبوبه حتى يغيب به، فيظن أنه اتحد به وامتزج، بل يظن أنه هو الله من شدة قوة الشهود، كما يحكى أن رجلاً كان له محبوب فغاب به ونسي نفسه، فألقى المحب نفسه في الماء، فألقى نفسه وراءه في الماء، فقال: أنا وقعت في الماء، لكن أنت ما الذي أوقعك في الماء؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أنا.
يعني: نسيت نفسي، وأظن أنك أنا، فأنا أنت وأنت أنا.
وهذا من قوة شهود القلب عند الصوفية بالمحبوب، حتى يغيب بالمحبوب عن نفسه وينسى نفسه، فيظن أنه هو المحبوب وأنه اتحد به وامتزج، وهذا يحصل للصوفية.
ومن ذلك ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي أنه غاب بالله عن نفسه، فجعل يقول عن نفسه: سبحاني سبحاني، غاب بنفسه عن نفسه، وجعل ينقض الجبة ويقول: ما في الجبة إلا الله.
يعني نفسه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذه الأقوال لو صدرت من إنسان ومعه عقله فلا شك في كفره، لكن قد يكون زال عقله في هذه الحالة، ويكون مرفوعاً عنه القلم مثل المجنون، فإذا كان عقله معه فهو كافر مرتد بإجماع المسلمين، وإذا كان ليس معه عقل فقد رفع عنه القلم، ويلتحق بالمجانين، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا الكلام يعده الصوفية النهاية والغاية، وهو كمال التوحيد عندهم الصوفية.