[موقف المعطلة من أسماء الله تعالى وصفاته]
وبعد السلف جاء بعض الناس من الخلوف وابتدعوا في دين الله ما ليس منه، وحرفوا نصوص الكتاب والسنة، ونفوا الأسماء والصفات عن الله، وقالوا: إنه لم يستو على عرشه، وقالوا في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤]: نؤمن باللفظ، لكن المعنى: استولى على العرش، ويقولون: إن الله لا ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فهذا لا يليق به، وقالوا: إن الله لا يتصف بالسمع ولا بالبصر، وهؤلاء هم المعطلة والخلوف الذين جاءوا من بعدهم.
واتصل هؤلاء المعطلة وغيرهم بأهل الشرك والأوثان، فأول من ابتدع القول بنفي الصفات هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، وتعطيله إنما هو في كلمتين: حيث نفى أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلاً، ونفى أن يكون الله كلم موسى تكليماً، وكان في زمن التابعين، فقتله خالد بن عبد الله القسري رحمه الله ورضي عنه، وكان أمير العراق والمشرق في واسط، وكان ذلك بفتوى من علماء زمانه، وكان هو الذي يصلي بالناس العيد، ويخطب الناس خطبة العيد، فأتى بـ الجعد مكبلاً، وجعله تحت أصل المنبر، وصلى بالناس العيد، ثم خطب خطبة العيد، ثم قال في آخرها: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل وأخذ السكين وذبحه، وضحى به أمام الناس، فأثنى عليه العلماء وشكروه على ذلك، فكان قتله بفتوى من العلماء، ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله هذا في الكافية الشافية، فقال: ولذا ضحى بجعد خالد الـ قسري يوم ذبائح القربان ثم ذكر في بيت بعده أن سبب ذلك هو أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم قال: شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان وكان قد اتصل به رجل آخر يسمى الجهم بن صفوان قبل موته، فأخذ عنه عقيدة نفي الصفات، ثم قتل الرجل الثاني الجهم بن صفوان أمير خراسان بها، لكنه كان قد نشر هذا المذهب وناظر عليه، فنسب مذهب التعطيل وعقيدة نفي الصفات إلى الجهمية، فيقال: مذهب الجهمية؛ لأنه نشره على نطاق أوسع.
وكان الجهم قد أخذ عن الجعد، والجعد بن درهم أخذ عن أبان بن سمعان، وأبان بن سمعان أخذ عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وطالوت أخذ عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فعقيدة نفي الصفات تتصل باليهود، وكانت -أيضاً- في أرض حران، وفي ذلك الوقت كان فيها مشركون وصابئة، فعقيدة نفي الصفات ترجع إلى الصابئة والمشركين واليهود، نسأل الله السلامة والعافية.
فهؤلاء الذين غيروا وبدلوا ونفوا الصفات وخالفوا منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وما درج عليه الصحابة والتابعون والأئمة يسمون بالمتكلمين، وهؤلاء الذين حرفوا النصوص وأنكروا الصفات كثر فيهم النفاق، وصاروا يزعمون أنهم يريدون أن يجمعوا بين الأدلة العقلية وبين الشريعة، فصار لهم شبه بالمنافقين، فالمنافقون يزعمون أنهم يجمعون بين الشريعة وبين ما يتحاكمون إليه، وهؤلاء يريدون أن يجمعوا بين الأدلة العقلية والأدلة الشرعية، كما أن الصوفية الذين انحرفوا يزعمون أنهم يجمعون بين الشريعة وبين الحقيقة، وكما أن الفلاسفة الذين انحرفوا يزعمون أنهم يريدون أن يجمعوا بين الشريعة وبين الفلسفة، كما أن المتفلتة وملوك الجور على مر العصور الذين خالفوا الشريعة يزعمون أنهم يجمعون بين السياسة وبين الشريعة.
والله تعالى أنكر على المنافقين زعمهم الإيمان بالله ثم تحاكمهم إلى غير الشريعة، وبيَّن مقالتهم السيئة، وأنهم يزعمون أنهم يريدون أن يجمعوا بين الشريعة وبين ما يتحاكمون إليه، ونفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن من لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع ويسلم بحكمه، ولا يجد في نفسه حرجاً، فيسلم بحكمه تسليماً كاملاً، قال الله تعالى عن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:٦٠ - ٦٢] أي: نريد أن نوفق بين الشريعة وبين ما نتحاكم إليه.
وكذلك كثير من أهل الكلام سلكوا مسلك المنافقين، فقالوا: نريد أن نوفق بين الأدلة الشرعية وبين الأدلة العقلية؛ إذ العقل هو الأساس والأصل، فيعرضون الشريعة على الأصول، فما وافقه قبلوه، وما رده ردوه بزعمهم.
كما أن الفلاسفة قالوا: نريد أن نجمع بين الشريعة وبين الفلسفة حتى يتوافقا، فهم على نهج {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:٦٢].
كما أن الصوفية يقولون: نريد أن نوفق بين الشريعة وبين علم الحقيقة، أي: علم الباطن، فهم -بزعمهم- يقسمون الناس إلى أقسام وطبقات، فمنهم من تسقط عنه التكاليف، ومنهم من تجب عليه التكاليف، كما أن المتفلتة يقولون: نريد أن نوفق بين الشريعة وبين السياسة.
وكل هؤلاء قال الله تعالى عنهم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] فنفى الإيمان، وأقسم سبحانه وتعالى بنفسه الكريمة فقال: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)) وجعل غاية هذا النفي وجود ثلاثة أمور: ((حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)) تحكيم الرسول والشريعة في موارد النزاع، ((ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ)) أي: لا يكون عند المحتكم حرج، ولا يكون في نفسه شيء، ولا يريد حكماً آخر، ((وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) وأكده، فهو اطمئنان كامل إلى حكم الله ورسوله، وهذا لا يوجد عند المنافقين، ولا أهل الكلام، ولا الفلاسفة، ولا الصوفية، ولا المتفلتة من ملوك السوء.
ولذلك لما كان أهل الكلام قد انحرفوا عن الجادة وعن الطريق السوي، وكثر النفاق فيهم؛ حذر العلماء من أهل الكلام، وحذروا الناس من سلوك طريقهم، وبينوا أن العلم بالكلام هو الجهل، كما قال أبو يوسف رحمه الله الصاحب الأول لـ أبي حنيفة لـ بشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم.
وإذا كان الإنسان رأساً في الكلام قيل: تزندق، أو قيل: زنديق.
وقوله: (الجهل بالكلام هو العلم)، يعني: عدم اعتقاده أو الإعراض عنه هو العلم.
وقال أبو يوسف أيضاً: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.
فقوله: (من طلب العلم بالكلام تزندق) أي: يصل في النهاية إلى الزندقة -والعياذ بالله- وينحل من دينه.
(ومن طلب المال بالكيمياء أفلس) الكيمياء نوع غير الكيمياء المعروفة الآن، بل هي نوع من السحر فيه زور وتغيير للواقع، فإذا علم المشتري بهذا الزور رد البيع، فيكون البائع مفلساً.
(ومن طلب غريب الحديث كذب) لأنه يتتبع الغريب.
وسبب هذا الانحراف من أهل الكلام عن الجادة وعن المنهاج الذي رسمه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم هو تفريطهم في اتباع ما جاء به الكتاب والسنة، وإعراضهم عن كتاب الله وسنة رسوله، حيث اعتمدوا على غير الكتاب والسنة، وتركوا الكتاب والسنة وراءهم ظهرياً، واعتمدوا على العقول، ولهذا يقول المعتزلة: العقل هو الأصل الأصيل عندنا، حتى قال بعضهم في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، قال: الرسول العقل.
فاعتمدوا على العقول، فانحرفوا وأعرضوا عن الكتاب والسنة، كما أن الفلاسفة اعتمدوا على الفلسفة وأعرضوا عن الكتاب والسنة، وكما أن الصوفية اعتمدوا على علم الباطن وعلم الحقيقة، وأعرضوا عن الكتاب والسنة فضلوا وأضلوا، قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٣ - ١٢٦].
إذاً: فالسبب في ضلالهم وانحرافهم هو إعراضهم عن الكتاب والسنة، وتفريطهم في اتباع ما جاء به الكتاب والسنة، فلما أعرضوا ضلوا وانحرفوا، والواجب على المسلم اتباع ما جاء به الكتاب والسنة.
وليس هناك طريق إلى الله، وإلى معرفة دينه، وإلى الوصول إلى جنته وكرامته، وإلى معرفة ما يرضي الرب إلا طريق الرسل، سدت الطريق الموصلة إلى الله إلا عن طريق الرسل، وآخر الرسل وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حظنا من الرسل كما أننا حظه من الأمم، وليس لنا طريق يوصلنا إلى الله إلا من الطريق الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) رواه الإمام مسلم في الصحيح، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وشريعة الرسول صلى الله عليه وسل