للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ضلال أهل الكلام والفلسفة في إثبات توحيد الربوبية]

إن توحيد الأسماء والصفات أثبته الله لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، فالأسماء والصفات كلها ثابتة لله، وهذه الطوائف انحرفت في هذا التوحيد مع أنه فطري، كما أن توحيد الربوبية أمر فطري أيضاً، ومع ذلك انحرفت فيه هذه الطوائف، وأقر بهما المشركون ولم ينكروهما، وقد عرف الله تعالى العباد بنفسه وبصفاته وأفعاله، وعرفهم بعظيم حقه حتى يعبدوه، ولهذا فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد الألوهية والعبادة، فالغاية هي توحيد الألوهية والعبادة، فقد خلق الله الخلق ليعبدوه ويوحدوه، ويخلصوا له العبادة.

ولهذا نجد القرآن الكريم يحتج على المشركين في إلزامهم بتوحيد الألوهية بتقريرهم بتوحيد الربوبية، فكما أنكم تقرون بتوحيد الربوبية فأقروا بتوحيد الألوهية، واعبدوا الله وأخلصوا له الدين، فهو يلزمهم بشيء يعتقدونه ويثبتونه.

فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أمران فطريان فطر الله عليهما جميع الخلق، إلا من شذ، وقد أثبتهما المشركون في أزمنة متعددة من الأزمنة الغابرة.

مع ذلك فكثير من أهل الكلام، وكثير من أهل النظر، وكثير من أهل الفلسفة، وكثير من أهل التصوف قد تعبوا في إثبات توحيد الربوبية، حتى قال بعضهم: إنه لا يمكن إثباته بالعقل، مع أنه أمر فطري أقر به المشركون، وأقر به قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وأقر به مشركوا العرب، كما في القرآن، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:٦١]، وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٨]، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:٣١].

إذاً: فهؤلاء لم ينكروا توحيد الربوبية، ولم تنكره الأمم السابقة، ومع ذلك جاء أهل الكلام والنظر والفلسفة والتصوف فقالوا: لا نستطيع إثبات توحيد الربوبية بالعقل، وقالوا: إنما يتلقى بالسمع لا بالعقل.

فالفلاسفة وفرق المتصوفة تعبوا وهم يقررون النظريات والمناهج الفلسفية ويؤلفون الكتب في إثبات توحيد الربوبية، فقد سئموا وتعبوا كثيراً حتى وصلوا إلى توحيد الربوبية، وظنوا أنهم بوصولهم إلى توحيد الربوبية قد وصلوا إلى الغاية والنهاية، فهم مع تعبهم العظيم وإضاعتهم للأوقات، وتفنيدهم للكتب والأوراق يصلون في النهاية إلى شيء قد سبقهم إليه عباد الأصنام والأوثان، فعباد الأصنام والأوثان أقروا بتوحيد الربوبية بكل يسر وسهولة، وليس عندهم فيه إشكال، وأهل الكلام والتصوف صعب عليهم توحيد الربوبية.

وقال كثير من أهل الكلام: إن الدليل على وجود الرب هو دليل التمانع، وهو أمر فطري، قال تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم:١٠] ففطر الله جميع الخلق على إثبات وجوده، وهؤلاء يقولون: الدليل على إثبات توحيد الربوبية دليل التمانع.

ودليل التمانع عندهم هو دليل بطريقة السبر والتقسيم، فيقولون: لو كان للعالم خالقان وربان، فعند اختلافهما -كأن يريد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، أو يريد أحدهما إحياء شيء والآخر يريد إماتته- لا يخلو الأمر من أن يحصل مرادهما، أو يحصل مراد واحد منهما، أو لا يحصل مرادهما جميعاً، والعقل لا يتصور أكثر من هذا التقسيم، فأما الأول فباطل تماماً، وهو أن يحصل مرادهما جميعاً؛ لأنه يلزم منه الجمع بين المتناقضين، فيكون الشيء متحركاً ساكناً في نفس الوقت، أو يكون حياً ميتاً في نفس الوقت، وهذا مستحيل وممتنع، فبطل الأمر الأول.

والثالث -أيضاً- مستحيل، وهو أنه لا يحصل مراد واحد منهما؛ لأنه يلزم منه رفع النقيضين معاً، فيكون الشيء غير متحرك ولا ساكن، ولا حي ولا ميت، وهذا مستحيل، فرفع النقيضين كالجميع بينهما، ويلزم منه عجز كل منهما، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً.

ولم يبق إلا الأمر الثاني، وهو أن يحصل مراد أحدهما ولا يحصل مراد الآخر، فالذي يحصل مراده هو الإله القادر، والذي لا يحصل مراده عاجز لا يصلح للألوهية ولا للربوبية.

قالوا: فهذا هو الدليل على إثبات الرب، فنقول لهم: لا حاجة إلى هذا؛ لأن إثبات الرب أمر فطري فطر الله عليه الخلق، وهو أمر ضروري لا يستطيع الإنسان أن ينكره.

وبعضهم يظن أن هذا الدليل هو معنى قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢]؛ لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الألوهية، وهذا باطل، فإن الآية ليست في دليل التمانع في الخالق، وإنما هي تمانع في الألوهية؛ لأن الله قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء:٢٢].

وهذا أيضاً إنما يكون بعد وجودهما؛ لأنه قال: {لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢]، فهذا فساد بعد الوجود، فبين سبحانه وتعالى أنه لو كان فيهما معبودان لفسد نظام السموات والأرض، وأن الفساد يلزم من وجود إلهين، وأنه لا صلاح للسموات والأرض إلا بأن يكون فيهما معبود واحد، وأن يكون هذا المعبود هو الله وحده؛ لأن السموات والأرض إنما قامتا بالعدل، وأعدل العدل هو توحيد الله عز وجل، وأظلم الظلم هو الشرك.

فأهل البدع يظنون أن هذه الآية تدل على توحيد الربوبية، وهذا خطأ، وإنما تدل على توحيد الألوهية الذي يتضمن توحيد الربوبية.

<<  <  ج: ص:  >  >>