للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر شبه الجهمية في التعطيل]

يقول الجهمية: لو قلنا إن الله متصف بالأسماء والصفات للزم من ذلك تعدد القدماء، فيكون القدماء متعددين، وهم يقولون: إن القديم واحد لا يتعدد، فالموجودات قسمان: القسم الأول: قديم، وهو الله الواحد لا شريك له.

والقسم الثاني: المخلوقات، وهي حادثة.

يقول الجهمية: فإذا أثبتنا لله العلم، والسمع، والقدرة، والعزة، والعظمة، والكبرياء صارت هذه أموراً متعددة، وصار القدماء متعددين، والله قديم واحد لا يتعدد، فقالوا بنفي الأسماء والصفات؛ حتى لا يتعدد القديم بزعمهم.

وكذلك قالوا: لو قلنا: إن الله له أسماء وصفات لشابه المخلوق، ولكان جسماً، فالله ليس بجسم ولا يشابه المخلوق، فلأجل الفرار من ذلك نفوا جميع الأسماء والصفات.

والحق أن الشيء الذي تُنفى عنه الأسماء والصفات لا وجود له في الخارج، وإنما يكون وجوده في الذهن، والذهن يتخيل المحال ويفرضه، فهاتوا شيئاً موجوداً في الخارج ليس له اسم ولا صفة! وهذا معروف عند العقلاء جميعاً.

وبذلك يكون مذهب الجهمية القول بأن الله لا وجود له في الخارج، وإنما وجوده في الذهن، ولهذا فإن مذهب الجهمية أفضى بقوم إلى القول بالحلول، وأفضى بقوم آخرين إلى القول بالاتحاد.

فأوصل قوماً إلى القول بأن الله حال في كل شيء، والذي فتح لهم باب هذا الشر هم الجهمية، ووجه ذلك أنهم لما نفوا الصفات والأسماء وبالغوا في نفيها تنزيهاً لله بزعمهم، وتعظيماً لمن أظهر الولاية لله، قالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح أو في الرجل الصالح، فقالوا بحلول الله في الصالحين فقط؛ لأن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح؛ لأنهم عظموا الله بزعمهم ونزهوه وعظموا من أظهر الولاية له، فقالوا: إن الله حل فيه، ثم تدرج بهم الحال فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في كل شيء وفي كل مكان حتى لا نجعله في شيء معين، فبذلك وصلوا إلى القول بأن الله حال في كل مكان، نسأل السلامة من الجهمية.

فليس هناك شيء إلا وهم يقولون: إن الله حل فيه، وهذا هو ربهم ومعبودهم الذي تخيلوه والعياذ بالله، وأما رب العالمين فهو -سبحانه وتعالى- فوق ما يظنون، وفوق ما يتصورون ويتوهمون، ومعبود الجهمية في كل مكان، والعياذ بالله، فهو في الحشوش والأبنية والأماكن القذرة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

كما أن مذهب الجهمية -وهو القول بتعطيل الله من أسمائه وصفاته- أوصل قوماً آخرين إلى القول بالاتحاد، والقول بوحدة الوجود.

ووجه ذلك أن الذي حملهم على نفي الأسماء والصفات بزعمهم هو تنزيه الله حتى لا يشابه المخلوق، وحتى يكون هو الواحد فليس له شريك، فبالغوا في هذا التنزيه طلباً لمرضاة الله، فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن ننسى أنفسنا، فنسوا أنفسهم، وتناسوا كل شيء يرونه في هذا الوجود، فلما تناسوا ذلك صاروا يرون أنهم لا يرون في هذا الوجود شيئاً إلا الله، فقالوا: ننسى كل شيء، ومن تعظيم الله ومحبته أن ننظر إليه فقط، وأن نتناسى كل شيء، حتى لا تشوش علينا هذه الأشياء في سيرنا إلى الله وطريقنا إليه، فالسماوات والأرضون والشمس والقمر والآدميون يشوشون علينا، فنحن ننساها من الشهود لا من الوجود، وتناساها حتى لا تشوش علينا العبادة، فلا ننظر إلا إلى الله، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروا وجودها، فقالوا: لا يوجد في هذا الكون إلا الله، فاتحد وجود الموجودات عندهم، فقالوا: إن كل شيء تراه هو الله والعياذ بالله، وهكذا فعلت الصوفية، فغلاة الصوفية وصلوا إلى القول بوحدة الوجود، وذلك أنهم قالوا: إن من تمام تعظيم الله وتنزيهه ألا نشاهد إلا الله، فالمغالي من الصوفية يقول: أنا أتناسى كل شيء، أتناسى السماوات والأرضين، ويقول: أنا لا أنكرها، لكن لا أشاهدها حتى لا تشوش علي، فلا أستطيع أن أنظر إلى هذه المخلوقات المتعددة فتشوش علي سيري إلى الله، فأنا ألغيها من الشهود وكأنها ليست موجودة، وألغي نفسي -أيضاً- حتى لا تشوش علي عبادتي مع الله، فأنكروها في الشهود، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروها في الوجود، وقالوا: ليست موجودة، بل كل شيء تراه هو الله، وكل شيء تراه هو مظهر لتجلي الله، فالسماوات والأرضون والآدميون هي الله، وهي أسماء وصفات لله، وهي مظاهر لتجلي الله، فأنت الرب وأنت العبد، فاتحد وجود الموجودات عند الاتحادية والعياذ بالله، والذي فتح لهم هذا الباب وهذا الشر هم الجهمية.

<<  <  ج: ص:  >  >>