[أدلة أهل السنة العقلية الدالة على علو الله]
استدل أهل الحق على ما ذهبوا إليه من أن الله فوق السماوات وفوق العرش بذاته بالعقل الصريح، وذلك عن طريق السبر والتقسيم، والسبر والتقسيم عند أهل الأصول وأهل المنطق هو أن تحصر الأقسام التي يتصورها العقل ثم تبطلها واحداً بعد واحد وتثبت القول الحق، فقالوا: لما خلق الله الخلق فلا يخلو من أن يكون خلقهم داخل ذاته، أو يكون خلقهم خارج ذاته، أو يكون خلقهم لا خارج ذاته ولا داخلها، فهذه ثلاث صور عقلية لا يمكن للعقل أن يتصور أكثر منها، أما الأولى -وهو كون الله خلق الخلق داخل ذاته- فباطل، لأنه يلزم منها أن يكون الله محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك، وهذا قول الحلولية، وهو كفر وباطل بالاتفاق.
وأما الثانية -وهي أن الله خلقهم لا داخل ذاته ولا خارجها- فباطل أيضاً؛ لأنه يلزم منها نفي الله وعدم وجوده بالكلية، ولأنه يلزم منها وصف الله بارتفاع النقيضين، وهذا غير ممكن، وهو قول معطلة الجهمية، وهو كفر.
وأما الثالثة -وهي أن الله خلق الخلق خارج ذاته- فلا يخلو إما أن يكون خلقهم خارج ذاته من فوقهم، أو خلقهم خارج ذاته من تحتهم، أو خلقهم خارج ذاته أمامهم، أو خلقهم خارج ذاته خلفهم، أو عن أيمانهم، أو عن شمائلهم.
وأليقها بالله جهة العلو، فثبت أن الله خلق الخلق خارج ذاته من فوقهم، ويلزم من ذلك أن الله عليٌ على عرشه فوق مخلوقاته.
وقد اعترض النفاة والمعطلة على هذا الدليل فقالوا: لا نسلم بأن هذا دليل عقلي واضح وبدهي تثبته العقول وتقرره، بل هو قضية وهمية خيالية، بدليل أن جمهور العقلاء أنكروا بداهته ولم يقولوا: إنه معروف.
فأجاب أهل الحق عن هذا الاعتراض بقولهم: إذا كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل فقولنا أعظم وأولى بأن يكون حقاً، وإن كان قولنا باطلاً بحكم العقل فقولكم أعظم رداً، وعامة فطر الناس توافقنا على هذا، فإن قبلتم فطرهم ترجحنا عليكم، وإن رددتم فطر جميع الناس بطلت عقلياتنا، فيبطل دليلنا ودليلكم العقلي؛ لأنهما تعارضا فتساقطا، وحينئذ نرجع إلى النصوص الشرعية، فالعقل مشترك بيننا وبينكم, ونحن متمسكون بالأدلة السمعية هنا.
أما قولكم: إن أكثر العقلاء ينكرون بداهة هذا الدليل فهذا القول باطل، فليس أكثر العقلاء هم الذين ينكرون هذا؛ بل الذي يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه طائفة قليلة من النظار، وأول من قال بذلك الجهم بن صفوان.
الدليل العقلي الثاني: دليل عقلي بطريقة الملازمة والاستثنائية، قال أهل الحق: لو لم يكن الرب متصفاً بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مختلط بالعالم لكان متصفاً بضدها، وهو السفول؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السفول، والسفول مذموم على الإطلاق، وهو مستقر إبليس وجنده، فدل على أنه قابل للفوقية.
واعترض هؤلاء النفاة فقالوا: لا نسلم أن الله قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، بل نقول: إن الله ليس قابلاً للفوقية حتى تلزمونا بأنه إذا لم يكن فوق كان أسفل.
وقد أجاب أهل الحق على هذا بجوابين: الجواب الأول: أنه لو لم يكن قابلاً للفوقية مع أنه قائم بنفسه وموجود، ووجوده خارجي؛ لكان قابلاً لضدها، فلو لم يكن قابلاً للفوقية لم يكن له ذات قائمة بنفسها، فكل موجود في الخارج لا بد من أن يكون قابلاً للفوقية أو للسفول، فمتى أقررتم بأن لله ذاتاً وأنه قائم بنفسه وأنه موجود في الخارج وليس وجوده ذهنياً لزمكم قبول الفوقية.
الجواب الثاني: لو لم يكن قابلاً للفوقية لكان كل عال على غيره أكمل منه، فإن من يقبل العلو والفوقية أكمل مما لا يقبل، والفوقية صفة كمال لا تستلزم نقصاً ولا توجب محذوراً ولا تخالف كتاباً ولا سنة ولا عقلاً، فنفيها يكون عين الباطل.