من أدلة أهل السنة والجماعة على أن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وأن الله يتكلم بكلام حادث، فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء، وفيه رد على الأشاعرة وعلى الكلابية والسالمية الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بقدرته ومشيئته، من أدلتهم قول الله تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأنبياء:٢]، وقال سبحانه في الآية الأخرى:{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}[الشعراء:٥]، فقوله:(محدث) صريح في حدوث آحاد كلام الله، فآحاد الكلام حادثة، ومعنى (محدث) جديد، ولا يلزم من ذلك حلول الحوادث في ذات الرب كما توهمته السالمية أو الكلابية والأشاعرة؛ لأن كلام الرب ليس ككلام المخلوق الذي يلزم منه الحوادث، فإذا تكلم المخلوق لزم أن تحل الحوادث في ذاته، أما الرب فلا يلزم منه ذلك؛ لأن كلام الرب لا يشبه كلام المخلوق.
ومن الأدلة قول الله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[المجادلة:١]، فهذه المرأة المجادلة هي خولة بنت ثعلبة، لما ظاهر منها زوجها جاءت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:(يا رسول الله! إن لي صبية إن ضممتهم إلي جاعوا أو إليه ضاعوا، فقد ظاهر مني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أراك إلا قد حرمت عليه، فجعلت تجادل الرسول وتراجعه، وقالت: أشكوا إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا أو إليه ضاعوا، فنزل القرآن والوحي بقوله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}[المجادلة:١]، قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات؛ إني قريبة من المجادلة ويخفى علي شيء من كلامها.
وهي تجادل النبي صلى الله عليه وسلم، والله سمع كلامها من فوق سبع سماوات وأنزل:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}[المجادلة:١])، والتعبير عن سماع كلام المرأة التي تجادل بـ (سمع) يدل على أن المجادلة سبقت نزول الآية، ويدل على سبق المجادلة للخبر، فالمُجَادِلة جادلت النبي صلى الله عليه وسلم ثم تكلم الله فأنزل:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ}[المجادلة:١]، وهذا يدل على أن كلام الله حادث بعد أن جاءت المجادِلة تتكلم، ولا يصح أن يقال: إن الله لم يزل يقول ويتكلم في الأزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ}[المجادلة:١]؛ لأن المجادلة ما خلقت بعد، فلما خُلقت المجادلة وجادلت النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله هذه الآية.
ومثله قول الله تعالى:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:١٢١]، والغدو: هو الخروج أول النهار، فالتعبير بالغدو هو إخبار عن خروج النبي صلى الله عليه وسلم في أول النهار بلفظ الماضي، فيدل على سبق الغدو للخبر، وأن غدو النبي صلى الله عليه وسلم كان أولاً ثم نزلت الآية:((وَإِذْ غَدَوْتَ))، ولا يصح أن يقال: إن الله لم يزل يقول في الأزل: ((وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ))؛ لأن الغدو والخروج لم يخلقا بعد، فلما خلق الخروج والغدو أنزل الله هذه الآية:((وَإِذْ غَدَوْتَ)).
ومثله قول الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}[الأعراف:١١]، فقوله:((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) حدث بعد خلق آدم، وبعد أمر الله للملائكة بالسجود لآدم، فلما خلق الله آدم أمر الله الملائكة فسجدوا له إلا إبليس، فقال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ}[الأعراف:١١].
وهذا يدل على أن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، فنوع كلام الله قديم، وأما أفراده فهي حادثة، فهو يتكلم سبحانه وتعالى إذا شاء، ومتى شاء، يتكلم بمشيئته وقدرته، وهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.