[شبهة استلزام إثبات الكلام التشبيه والتجسيم والرد عليها]
أما المعتزلة الذين تحول إليهم مذهب الجهمية فيقولون: إن الكلام مخلوق، وإن الرب لا يتكلم بكلام هو صفة له قائمة بنفسه، بل إن الكلام ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات تتعلق بقدرته ومشيئته، لكن الله خلق هذا الكلام خارجاً عن ذاته، بأن خلقه في الهواء أو في الجسم ثم نسبه وأضافه إليه تشريفاً وتكريماً.
ولهم في هذا شبه عقلية وشبه شرعية، فمن شبههم العقلية أنهم يقولون: لو قلنا: إن الله يتكلم وإن الكلام صفة قائمة بذاته للزم من ذلك التشبيه بالمخلوقات والتجسيم، فيكون الله مشابهاً للمخلوقات التي تتكلم، والله ليس كمثله شيء، وللزم من ذلك أن يكون جسماً كسائر الأجسام، والله ليس بجسم ولا مماثل للمخلوقات، فقالوا فراراً من ذلك: إن الله لا يتكلم بكلام هو صفة له قائمة بذاته، وإنما يتكلم بكلام خارج عنه.
وأجاب أهل السنة عن هذه الشبهة بقولهم: إن الله يتكلم بكلام لا نعلم صفته ولا يشبه كلام المخلوقين، فلا يظن من ذلك التشبيه والتجسيم كما تقولون، بل إن الله يتكلم بكلام يليق بجلاله وعظمته لا يشبه كلام المخلوق، فالمخلوق له كلام يخصه والخالق له كلام يخصه، وبذلك تزول هذه الشبهة وتنتهي.
ثم نقول أيضاً: إننا نرى بعض المخلوقات تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم، والله تعالى أخبر أن الجلود تنطق يوم القيامة وتتكلم، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت:٢١]، فالجلد يتكلم بكلام لا نعرف كيفيته، وأخبر الصحابة أن الأيدي والأرجل تشهد يوم القيامة، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:٢٤]، وقال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥]، فكيف تتكلم الأيدي والأرجل والجلود؟ وهل لها لسان وأضراس؟ وهل لها شفة عليا وشفة سفلى؟! فكيف تتكلم؟! لا نعلم كيف تتكلم.
وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعلم حجراً يسلم علي)، وهذا من الكرامات، وثبت أيضاً أن الطعام سبح بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الحصى، وثبت أن الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم صاح كما يصيح الصبي وكاد أن ينشق لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وتركه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يهدئه رويداً رويداً حتى سكت كالطفل الذي يُهدَّأ.
فإذا كان هناك بعض المخلوقات تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم، وكل ذلك بلا صوت ولا حروف ولا أضراس ولا شفه عليا ولا شفه سفلى، وليس الكلام معتمداً على مقاطع الحروف؛ فالله تعالى أولى بأن يتكلم ولا نعلم كيفية كلامه.
وبهذا تبطل هذه الشبهة، وهي قولهم: إن الله إذا تكلم أشبه كلامه كلام المخلوقين.
وهم يقولون: إن الكلام مخلوق، فقال بعضهم: في محل، وقال بعضهم: مخلوق لا في محل، فنقول للذين قالوا: إنه مخلوق لا في محل: محال أن تقوم الصفة بنفسها! فهل رأيت علماً يقوم بنفسه، أو كلاماً يقوم بنفسه؟! فهذا محال، ولا بد من أن تقوم الصفة بالموصوف.
ونقول للذين قالوا: إنه يتكلم في محل: محال أن تقوم الصفة بغير الموصوف، فكيف يتكلم الله تعالى بكلام يقوم بغيره ويكون صفة له؟! لا يمكن ذلك، فمحال أن تقوم الصفة بغير الموصوف، ولو جاز أن ينسب إليه الكلام وهو لم يقم به لجاز أن ينسب إلى الله وأن يضاف إليه ما في المخلوقات من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر، ولجاز أن تنسب هذه كلها إلى الله، وهذا باطل، ولو كان الكلام منسوباً إلى الله وهو في غيره لجاز أن ينسب إلى الله أيضاً ما أحدثه من الكلام في الجمادات، وما خلقه من الكلام في الحيوانات، بل لجاز أن ينسب كل كلام إلى الله، كما قال بذلك الاتحادية، وهذا باطل.
ولو كان كلام الله قائماً بغيره وينسب إليه لجاز أن يقال: إن كلام فرعون حينما قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] حق وصدق؛ لأنه كلام الله قام بفرعون، وهذا من أبطل الباطل.