[ترجيح الإمام ابن القيم رحمه الله]
ساق العلامة ابن القيم رحمه الله الأدلة في هذه المسألة في كتابه (رسالة في الصلاة)، وساق أدلة القائلين بكفر تارك الصلاة كفراً أكبر يخرج من الملة، وساق أدلة القائلين بأنه يكفر كفراً أصغر لا يخرج من الملة، ثم عقد فصلاً للحكم بينهم فقال: فصل في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفتين.
يريد أن يحكم بينهم، ثم قال: معرفة الصواب في هذه المسألة مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر، ثم يصح النفي والإثبات بعد ذلك، ثم ذكر رحمه الله كلاماً تستخلص منه الأصول الآتية: الأصل الأول: أن الإيمان والكفر متقابلان، فمتى زال أحدهما خلفه الآخر، فإذا زال الإيمان خلفه الكفر، وإذا زال الكفر خلفه الإيمان، فالكفر والإيمان متقابلان، فمتى زال أحدهما خلفه الآخر.
الأصل الثاني: أن الإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيماناً، والكفر أصل له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى كفراً.
الأصل الثالث: أن شعب الإيمان متفاوته، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)، فالأصل الثالث: أن شعب الإيمان متفاوتة، فأعلاها شعبة الشهادة، وأدناها شعبة إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة، منها ما يقرب من شعبة الشهادة، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى عن الطريق، وكذلك الكفر شعب متفاوتة.
الأصل الرابع: أن الإيمان قسمان: قول وعمل، وكذلك الكفر قسمان: قول وعمل، وأن الإيمان قد يحصل بشعبة قولية، كشعبة الشهادة، وقد يحصل بشعبة فعلية، كشعبة التصديق.
وكذلك الكفر قد يحصل بشعبة قولية، كالإتيان بكلمة الكفر اختياراً، وقد يحصل بشعبة فعلية، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف.
الأصل الخامس: أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب وهو التصديق والاعتقاد، وقول اللسان: وهو التكلم بكلمة الإسلام، وعمل القلب: وهو نيته وإخلاصه واعتقاده، وعمل الجوارح، فحقيقة الإيمان مركبة من قول اللسان، وقول القلب، وعمل القلب، وعمل الجوارح، فإذا وجدت هذه الحقيقة المركبة من هذه الأمور الأربعة، وجد الإيمان بالاتفاق، وإذا فقدت هذه الأربعة، فقد الإيمان بالاتفاق، وإذا وجدت، وتخلف التصديق والاعتقاد، فإنه لا تنفع بقية الأجزاء؛ لأن التصديق شرط في صحتها، وإذا وجد التصديق، وانتفى عمل القلب: وهو نيته وإخلاصه، ومحبته وانقياده، فهذا موضع الخلاف والمعركة، بين أهل السنة وبين المرجئة، فأهل السنة يقولون: لا يحصل الإيمان، والمرجئة يقولون: يحصل الإيمان.
الأصل السادس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به إيماناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد، أن يسمى كافراً وإن كان ما قام به كفراً.
الأصل السابع: أن سلب اسم الإيمان عن تارك الصلاة، أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، فالنبي صلى الله عليه وسلم سلب الإيمان عن مرتكب الكبائر، فقال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فسلبه عن تارك الصلاة أولى، وسلب اسم الإسلام عن تارك الصلاة أولى، من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فالذي لم يسلم المسلمون من لسانه ويده سلب عنه الإسلام، فسلب الإسلام عن تارك الصلاة أولى.
الأصل الثامن: أنه إذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب -وهو المحبة والانقياد- فغير مستنكر أن يزول الإيمان بزوال أعظم أعمال الجوارح، وهي الصلاة.
ثم بعد ذلك عند التأمل قال: هل ينفع تارك الصلاة ما معه من التصديق، في عدم الخلود في النار أولا ينفعه؟ فتارك الصلاة معه شعبة واحدة من الإيمان، وهي شعبة التصديق، فهل ينفعه ما معه من الإيمان؟ وهل تنفعه هذه الشعبة -وهي التصديق- في عدم الخلود في النار أو لا تنفعه؟ والجواب أن يقال: تنفعه إن لم يكن المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره، أما إذا كان المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره فإنها لا تنفعه، ولهذا لم تنفع الشهادة لله بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو، من أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ شرط في صحة الشهادة لله بالوحدانية، ولم تنفع الصلاة لمن صلاها عمداً بغير وضوء؛ لأن الوضوء شرط في صحة الصلاة؛ لأن شعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض؛ تعلق المشروط بشرطه، وقد لا يكون كذلك، فالصلاة هل تتعلق بالإيمان تعلق المشروط بشرطه؟ أي: هل هي شرط في صحته أو لا؟ هذا هو سر الاختلاف.
والأدلة الكثيرة التي سبقت وغيرها؛ تدل على أنه لا يقبل شيء من أعمال العبد إلا بفعل الصلاة، وأن الصلاة هي رأس مال ربح الإنسان، ومحال بقاء الربح؛ مع ضياع رأس المال، فإذ خسر الصلاة خسر أعماله كلها، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإن ضيعها فهو لما سواها أضيع) وقوله: (أول ما ينظر من عمل العبد الصلاة، فإن جازت له نظر في سائر عمله، وإن لم تجز له لم ينظر في سائر عمله)، وهي أول ما يحاسب العبد عنه، إذا وضع في قبره، فالأدلة الكثيرة تدل على أن ترك الصلاة، ملزوم بعدم محبة القلب وانقياده، وعدم محبة القلب وانقياده، ملزوم بعدم التصديق الجازم، وعدم التصديق الجازم، ملزوم بالكفر، فيلزم من ترك الصلاة، عدم محبة القلب وانقياده، ويلزم من عدم محبة القلب وانقياده، عدم التصديق الجازم، ويلزم من عدم التصديق الجازم، الكفر.
هذا هو ترجيح الإمام العلامة ابن القيم، فقد توصل إلى أنه يلزم من ترك الصلاة، عدم محبة القلب وانقياده، ويلزم من عدم محبة القلب وانقياده، عدم التصديق الجازم، ويلزم من عدم التصديق الجازم، الكفر.
ثم يصور رحمه الله صورة واقعة لتارك الصلاة، فيقول فيمن يقول إن تارك الصلاة لا يكفر: ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على ترك الصلاة، ودعي إلى فعلها على رءوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، وعصبت عيناه، وشد للقتل، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً، فهل يقع الشك في كفر هذا؟! يقول: أنا مصدق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن الصلاة واجبة، ولكني لا أصلي، فاقتلوني ولن أصلي أبداً، فهل يقع الشك في كفر هذا؟! يقول: ومن لا يكفر تارك الصلاة، ويقول في هذا الرجل الذي عصبت عيناه، وشد للقتل، ويرى بارقة السيف على رأسه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً، يقول: هذا مسلم مؤمن، يغسل ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين في مقابرهم؟ ثم يقول: وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان، فإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، فهؤلاء هم المرجئة، فالمرجئة يقولون: إنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب.
ثم قال: أفلا يستحي مَنْ هذا قوله من إنكاره كفر من شهد بكفره الكتاب والسنة، واتفاق الصحابة؟! والله الموفق.
فهذه صورة لتارك الصلاة: رجل عصبت عيناه، وشد للقتل، وامتنع من الصلاة، فهل يكفر أو لا يكفر؟ فمن لا يكفر تارك الصلاة يقول: لا يكفر، وهل يعقل أن يكون شخص استقر الإيمان في قلبه، ويعرف الوعيد على ترك الصلاة، والفضل العظيم على فعلها، ثم يبقى طول دهره، وبقية عمره، لا يصلي، ويكون في قلبه إيمان؟! هل يعقل هذا؟! لا فلو كان في قلبه إيمان لصلى لله، فأين الإيمان؟! وهل يعقل أن يكون هناك شخص يقول: إنه مصدق، وإنه في قلبه إيمان، ويعترف بوجود الصلاة، ويعرف الأدلة على وجوبها، والفضل العظيم لمن أدى هذه الصلاة، والوعيد الشديد على من تركها، ثم يبقى دهره لم يصل، ولم يسجد لله سجدة واحدةً ويقول إنه مؤمن؟! هل يعقل هذا؟! لا يمكن ولا يعقل.
فلا ومن أقوى الأدلة ما ذكره ابن القيم رحمه الله وهو حديث الأمراء، والنهي عن الخروج عليهم إلا عند الكفر البواح، أما حديث عوف بن مالك الأشجعي في النهي عن الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة، وهذا من أقوى الأدلة، فنهى عن الخروج إلا عند الكفر البواح، وفي حديث عوف بن مالك نهى عن الخروج ما داموا يقيمون الصلاة، فدل على أنهم: إذا لم يقيموا الصلاة؛ فقد أتوا كفراً بواحاً، وكذلك حديث البخاري (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) والذي يحبط عمله، هو الكافر، ثم إجماع الصحابة أيضاً، وكذلك حديث: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فقد جعل حداً فاصلاً بين الكفر وبين الإيمان، فالبينية تفصل بين الشيء وغيره.
ومن الأدلة أيضاً: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوماً فقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف).
ففيه أن من لم يحافظ عليها يحشر مع أئمة الكفر، مع قارون، ومع فرعون الطاغية؛ الذي ادعى الربوبية والألوهية، {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] ومع هامان وزير فرعون، وقارون الذي خسف الله به الأرض، وأبي بن خلف تاجر الكفار بمكة، يحشر مع هؤلاء الكفرة، فالذي يحشر مع هؤلاء الكفرة هل هو مؤمن؟! لا يمكن ذلك، فدل على كفره، فلولا أنه كافر لما حشر مع هؤلاء الكفرة الذين هم رءوس الكفر، ففرعون هو الذي ادعى الألولهية، وهامان وزير فرعون، وقارون صاحب الأموال الكثيرة الذي خسف الله به الأرض، وأبي بن خلف تاجر كفار مكة.
قال العلماء: إن كون تارك الصلاة يحشر مع هؤلاء الأربعة لأنَّه إما أن يتركها لأنه اشتغل بملكه، أو يتركها اشتغالاً بماله، أو يتركها