ولقد هتك الله سبحانه وتعالى أستار المنافقين، وكشف أسرارهم وجلّى صفاتهم وأمورهم لعباده المؤمنين حتى يكونوا منهم على حذر، فإن المنافقين كثيرون ويعيشون بين المسلمين في كل زمان ومكان، وبلية الإسلام منهم عظيمة، وفتنتهم شديدة، وهم يعيشون بين المسلمين ويتظاهرون بالإسلام وينسبون إليه وإلى أهله، ويظهرون أنهم ينصرون الإسلام، وهم يكيدون له ولأهله، وهم أعداء الإسلام في الحقيقة، يتلونون بكل لون، ويظهرون كفرهم في قالب متنوع ومتلون، في قالب العلم والصلاح وهو الجهل والإلحاد.
وكفر المنافقين أشد من كفر الكفار باطناً وظاهراً، والمنافقون كفار في الباطن مسلمون في الظاهر، وتجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر إذا لم يظهروا نفاقهم، فهم يغسلون إذا ماتوا ويصلى عليهم، ويدفنون مع المسلمين في مقابرهم، ويرثون ويورثون، لكن من أظهر منهم نفاقه فإنه يقتل ويعامل معاملة الكفار، فإذا أخفى نفاقه ولم يظهر لنا إلا الإسلام فإنه تجرى عليه أحكام الإسلام، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام على المنافقين في زمنه، فإن عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين كان يصلي الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعظ الناس ويقول: احمدوا الله واشكروه على هذا النبي واتبعوه.
فلما كان بعد غزوة أحد وانحاز بثلث الجيش تكلم بعض أصحابه وقال: عرفناك يا عدو الله، أو كلمة نحوها، فخرج وجعل يتكلم وهو يمشي ويقول: أنا أريد أن أشد أمره، وهو يريد أن يعليه.
أو كما قال.
ولما مات عبد الله بن أبي ووضع في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فاستخرجه من القبر وألبسه قميصه ونفث فيه من ريقه، وقام ليصلي عليه، فجره عمر وقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أخر عني يا عمر، فإني خيرت، فقيل:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}[التوبة:٨٠]، فو الله لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت على السبعين)، وهذا ثبت في صحيح البخاري، ثم صلى عليه، وذلك قبل النهي عن الصلاة عليهم، ثم بعد ذلك نزلت الآية، وهي قول الله تعالى:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:٨٤]، فلم يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بعد ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما استخرج عبد الله بن أبي من قبره وكفنه قميصه ونفخ فيه من ريقه فعل ذلك رجاء أن ينفعه الله بذلك، ومراعاة لابنه عبد الله وللأوس والخزرج؛ فإن عبد الله بن عبد الله بن أبي من أصلح عباد الله، وألبسه قميصه مكافأة له؛ لأنه أعطى العباس عم النبي قميصاً، وكان العباس رجلاً طويلاً، فلم يوجد للعباس ثوب يناسبه في الطول إلا ثوب عبد الله بن أبي، فأعطاه إياه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم وألبسه قميصه، وصلى عليه؛ لأنه ما نهي عن الصلاة عليه، ولعل الله أن ينفعه.
فالمنافقون تجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، والله تعالى هو الذي يتولى السرائر، وفي الآخرة إذا كانوا كفاراً فهم في الدرك الأسفل من النار، فإن أظهروا شيئاً من كفرهم كالعمل أو القول الكفري فإنهم يقتلون من قبل الحاكم الشرعي، أو من قبل ولاة الأمر.