لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة لها إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها وخالقها بأسمائه وصفاته وأفعاله، فالنفوس معذبة إن لم تعرف ربها وخالقها، ولا يحصل لها سلام من هذا العذاب، ولا يحصل لها نعيم ولا راحة ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها وخالقها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه، ويكون مع ذلك كله هذا المعبود سبحانه وتعالى أحب إليها من كل ما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه من دون سائر خلقه، فإذا كانت بذلك تمت السعادة، فإذا عرف الإنسان ربه ومعبوده وفاطره وخالقه، وكان مع ذلك أحب إليه من كل شيء، وكان سعيه فيما يقربه إليه تمت السعادة، وإذا عرف الإنسان معبوده وفاطره وخالقه وإلهه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ فقد تعلم علم أصول الدين، وحصل على علم الفقه الأكبر، ولا يمكن أن يفقه فيما يقربه من الله إلا عن طريق معرفة الشريعة -وهي الأوامر والنواهي، والحلال والحرام- التي شرعها الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا عرف الإنسان ربه ومعبوده وفاطره وخالقه، وكان أحب إليه من كل ما سواه من النفس والولد والوالد والناس جميعاً، وكان سعيه وعمله فيما يقربه إليه من دون سائر خلقه فقد تمت السعادة، ويستحيل أن تستقل العقول وأن تدرك تفاصيل معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة الشريعة والأوامر والنواهي، ومعرفة شئون المعبود، يستحيل أن تستقل العقول بمعرفة ذلك، ولا يمكن للعقول أن تعرف أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما يحبه الله ويرضاه، وشئون المعاد وما يكون لها، والعقول متفاوتة ومختلفة اختلافاً عظيماً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه أنه لم يكلهم إلى عقولهم؛ لأن العقول لا تستطيع أن تدرك علم أصول الدين، ولا تستطيع أن تدرك شرائع الدين، ولا تستطيع أن تدرك شئون المعاد، وما يكون للإنسان بعد موته، فمن رحمة العزيز الرحيم أنه لم يكل ذلك إلى العقول، فلذلك أرسل الرسل يعرفون بالله، ويدعون إليه، ويبشرون من أطاعهم بالجنة، وينذرون ويحذرون من عصاهم بالنار، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه، قال الله عز وجل:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:٢١٣].
والفائدة من معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة شريعته وأوامره ونواهيه، وما يكون شئون المعاد، الفائدة من ذلك العمل، إذا عرف الإنسان ربه ومعبوده وخالقه بأسمائه وصفاته، وعرف دينه؛ تقرب إلى الله بما يحبه، وأخلص له العبادة، وآمن بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعمل رجاء لقاء الله، وتيقن أنه ملاقٍ ربه، وأنه واقف بين يديه، وأنه محاسبه ومجازيه على كل صغيرة وكبيرة، فالعبد إذا عرف ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ فحينئذٍ يعبد الله على بصيرة، ويتقرب إلى الله بما يحبه، ويعبده حق عبادته، ويخلص له العبادة، ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته.
والطريق إلى معرفة المعبود ومعرفة الشريعة ومعرفة شئون المعاد هم الرسل، وآخر الرسل هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو حظنا من الأنبياء والرسل، ونحن حظه من الأمم، عليه وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم.
والكتاب والسنة الذان جاءا عن طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بهما نعرف ربنا وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه ويرضاه من الأوامر التي نفعلها والنواهي التي نتركها، وما يحصل لنا بعد الموت حينما نلاقي ربنا، ونعرف بهما أن الناس قسمان في النهاية: فريق في الجنة وفريق في السعير، وأن هناك قبراً، وسؤالاً بعد الموت، وأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وأن هناك حساباً ووقوفاً بين يدي الله، وأن هناك بعثاً وحشراً ونشراً، وأن هناك صحفاً تتطاير فتؤخذ بالأيمان وبالشمائل، وأن هناك حوضاً يرد الناس عليه في الموقف يوم القيامة، وأن هناك ميزاناً توزن فيه الأعمال والأشخاص، وأن هناك صراطاً يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، ثم الاستقرار في الجنة أو النار، وكل هذا لا يمكن أن تعرفه العقول ولا أن تدركه على التفصيل، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لم يكل ذلك إلى العقول، بل أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب ليعرفوا الناس بصفات الله وبأسمائه وأفعاله، ويعرفوا الناس بما يحبه الله وبما يكرهه، وما يرضاه الله وما يأباه، وما يحب أن يفعله العباد وما يحب أن يتركه العباد، ويعرفوا الناس بحالهم ومصيرهم بعد الموت.
ولهذا كان أطوع الناس لله وأعرفهم بالله هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصل إليه، والطريق الموصل إليه لا يعرف إلا عن طريق شرائع الدين التي شرعها الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فأتبع الناس، وأطوع الناس لله، وأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصل إليه، وفي مقدمة هؤلاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وأعرف الرسل وأطوعهم وأتبعهم هم أولوا العزم الخمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأطوعهم وأتبعهم وأعرفهم الخليلان -إبراهيم ومحمد- عليهما الصلاة والسلام، وأطوع الخليلين وأتبعهما وأعرفهما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام:(إني أخشاكم لله وأتقاكم له)، وفي لفظ آخر:(إني أعلمكم بالله)، فهو أعلم الناس بالله، وأعرف الناس بالله، وأتقى وأخشى الناس، وأفضل الناس عليه الصلاة والسلام، وأكرمهم وأطوعهم وأتبعهم عليه الصلاة والسلام، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف.