[عقيدة الجهمية المعطلة في الأسماء والصفات]
توحيد الأسماء والصفات يثبت العبد فيه لله الأسماء والصفات، فيثبت لله أنه سميع بصير عليم قدير عليم، وكذلك سائر أسمائه وصفاته، والأسماء ليست أعلاماً محضة، بل هي أسماء دالة على الصفات، فالرحمن دال على الرحمة، والعليم دال على العلم، والحكيم دال على الحكمة.
ونثبت لله الأسماء والصفات كما يليق بجلال الله وعظمته، من غير تكييف، ولا تحريف، ولا تعطيل، وهذا هو مذهب أهل الحق، فيثبتون الأسماء والصفات لله إثباتاً بلا تمثيل، وينزهون الله عن النقائص والعيوب تنزيهاً بلا تعطيل.
وجاءت المعطلة بعد السلف الصالح وابتدعوا في باب الأسماء والصفات بدعاً عظيمة، وعطلوا الرب سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته، وأول من تكلم في نفي الصفات -وهو المؤسس لعقيدة التعطيل ونفي الصفات- هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية للهجرة، وقتله خالد بن عبد الله القسري، وتقلد عقيدته الجهم بن صفوان، وتوسع فيها ونشرها، فنسب المذهب إليه فقيل: مذهب الجهمية، فأدخلوا في مسمى التوحيد نفي الصفات، وقالوا: إن معنى التوحيد نفي الصفات، فنفوا الصفات والأسماء عن لله وما أثبتوا شيئاً منها، فنفوا السمع والبصر والعلم والقدرة، ونفوا اسم السميع والبصير والعليم، وقالوا: لو أثبتنا لله أسماء وصفات لشابه المخلوق، فالمخلوق سميع، فإذا كان الخالق سميعاً حصل التشابه، والمخلوق له علم، فإذا قلنا: الخالق له علم حصل التشابه، فنفوا الأسماء والصفات، وقالوا: إن دليلنا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] وعموا عن آخر الآية: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فهم استدلوا ببعض الآية وتركوا بعضها، فالتوحيد عندهم أصل أدخلوا فيه نفي الصفات، وقالوا: إن التوحيد معناه أن تنفي الأسماء والصفات عن الله عز وجل.
وقالوا أيضاً: لو أثبتنا أسماء وصفات لله لكانت هذه الأسماء والصفات قديمة، والله قديم، ويلزم من ذلك تعدد القدماء، والقديم واحد هو الله، والمخلوق حادث، فإذا قلنا: إن الله له سمع وبصر وعلم وقدرة كانت هذه الصفات قديمة مع الله، وصارت متعددة مع الله، فيصير القديم متعدداً، مع أن القديم واحد وهو الله، فنفوا عن الله جميع الأسماء والصفات، وهذا هو مسمى التوحيد عندهم، وهذا -والعياذ بالله- يؤدي إلى إنكار وجود الله، ذلك أن إثبات شيء بدون اسم ولا صفة لا وجود له في الخارج، لكن قد يكون له وجود في الذهن، حتى إن غلاتهم نفوا كل شيء عن الله، فقالوا: إن الله ليس مستوٍ على العرش، وليس له سمع ولا بصر ولا عين ولا قدرة، وليس فوق العالم ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، فماذا يكون؟ يكون ممتنعاً أشد من المعدوم والعياذ بالله، ولو وصفوا المعدوم بأكثر من هذا لما استطاعوا، نسأل الله السلامة والعافية.
نقول لهؤلاء الجهمية: إن إثبات ذات بدون اسم وصفة لا وجود له في الخارج، لكن قد يكون له وجود في الذهن، والذهن قد يتخيل المحال، فلو قلت: هذه المنضدة ليس لها طول ولا عرض ولا عمق، وليست فوق ولا تحت، وليس لها لون، فهل تكون موجودة أم غير موجودة؟! تكون معدومة لا وجود لها، فكل شيء ليس له اسم ولا صفة، ولا وجود له في الخارج، إنما يكون وجوده في الذهن؛ لأن الذهن يفرض المحال ويتخيله، فأنت الآن يمكن أن تخرج بذهنك وتطوف المشارق والمغارب وأنت موجود هنا، أليس كذلك؟! فتفرض أن هناك بحراً بين السماء والأرض، وأن في وسط البحر سفناً، وفي وسط السفن قصوراً، وهكذا، فهل هذا له وجود أم هو خيال؟ إنه خيال لا وجود له.
وكذلك هؤلاء الجهمية يفرضون أن هناك خالقاً ليس له اسم ولا صفة في أذهانهم، فنقش الشيطان في أذهانهم أن هناك خالقاً ليس له وجود في الذهن، ولهذا كفر العلماء الجهمية، وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية أنه كفرهم خمسمائة عالم، فقال: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنهم بل قد حكاه قبله الطبراني فهؤلاء -والعياذ بالله- ابتدعوا في الأسماء والصفات، وزعموا أن التوحيد هو نفي الأسماء والصفات.
وكذلك المعتزلة تقدلوا عقيدة نفي الصفات، وقالوا: إن نفي الصفات من أصولهم، وهم الذين اعتزلوا مجلس الحسن البصري، وزعموا أن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولكنه لم يدخل في الكفر، وخلدوه في النار، وقالوا: إن التوحيد هو نفي الصفات، وقالوا: عندنا أصول خمسة: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقالوا: التوحيد يندرج تحته القول بنفي الصفات، فمن أثبت الصفات لله فليس بموحد عند المعتزلة ولا عند الجهمية، ويكون مجسماً مشبهاً.
حتى إنهم كفروا أهل السنة والجماعة الذين يثبتون العلو، وقالوا: من قال: إن الله فوق العرش فقد تنقص الله، أي: جعل الله مخلوقاً وجعله جسماً، وجعله متحيزاً، فيكفر بهذا.
إذاً: ما التوحيد؟ قالوا: التوحيد ألا تثبت أن الله فوق العرش، وليس له مكان، فأين هو؟ قال بعضهم: إنه داخل العالم، وقال بعضهم: لا داخل العالم ولا خارجه، واستوى على العرش بمعنى: استولى عليه بالقدرة.
فالمعتزلة قالوا: التوحيد معناه نفي الصفات، والعدل: إنكار القدر والتكذيب به، والمنزلة بين المنزلتين: أن المؤمن إذا فعل المعصية الكبيرة خرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فكان في منزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد: هو أن مرتكب الكبيرة يجب أن ينفذ فيه الوعيد ويخلد في النار، ولا يخرج منها كالكافر.
والأمر بالمعروف ذكروه تحت إلزام الناس بمذهبهم الباطل واجتهاداتهم الباطلة، والنهي عن المنكر ذكروا تحته الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، فقالوا: إذا عصى ولي الأمر جاز الخروج عليه، وهذا من أبطل الباطل، فلا يجوز الخروج على ولاة الأمر بالمعاصي، ولو جاروا وظلموا.
ومعتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور ولو فسق ولي الأمر وعصى؛ لأن الخروج على ولاة الأمور يترتب عليه مفاسد، من إراقة الدماء، واختلال الأمن، والتطاعن والتناحر، وتربص الأعداء بهم الدوائر، بخلاف الصبر على جور الولاة وظلمهم، فهو مفسدة قليلة يصبر عليها المسلمون في كل مكان وزمان، فعليهم أن يصبروا على ما حصل من ولاة الأمور، وليس لأحد أن يخرج على ولي الأمر بالمعصية، ومن خرج على ولي الأمر بالمعصية فقد سلك مسلك أهل البدع من الخوارج والرافضة والمعتزلة، وهذه طريقة أهل البدع وطريقة أهل الزيغ، أما أهل السنة والجماعة فمن عقائدهم عدم الخروج، كما سيأتي في الطحاوية: (ولا نرى الخروج على أئمتنا، ولا نرى نزع يد من طاعة، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة)، هكذا معتقد أهل السنة والجماعة، لا يخرجون على ولاة الأمور بالمعاصي ولا بالجور، كما دلت النصوص الكثيرة على هذا، كحديث مالك بن عوف الأشجعي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم -يعني: تدعون لهم ويدعون لكم- وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف، قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة).
وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)، وفي حديث أبي ذر: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف).
ولكن هذه الطاعة مقيدة بطاعة الله عز وجل، فمن أمر منهم بالمعصية فإنه لا يطاع، لكن لا يجوز الخروج عليه، ولهذا جاء في الحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فمن أمر بالمعصية لا يطاع، لكن ليس معنى هذا أنه يخرج على ولاة الأمر، فلو أمرك ولي الأمر أن تشرب الخمر فلا تطعه، لكن لا تخرج عليه، ولو أمرك بأن تقتل إنساناً بغير حق فلا تطعه، كالأب إذا أمر ابنه بمعصية فإنه لا يطيعه، والزوجة إذا أمرها زوجها بمعصية لا تطعه.
وفي حديث حذيفة الطويل قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، فالمعتزلة أصل من أصولهم الخروج على ولاة الأمور إذا جاروا وظلموا، كما أن الرافضة كذلك يرون الخروج على ولاة الأمور، ولا يرون الطاعة إلا للإمام المعصوم، وهو من الأئمة الاثني عشرية الذين من نسل الحسين بن علي، فهم اثنا عشر إماماً نص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم لا طاعة له، وكذلك الخوارج يكفرون بالمعاصي.
أما أهل الحق أهل السنة والجماعة فيرون السمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله، وعدم الخروج عليهم بالمعاصي، وفي الحديث الآخر: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) يعني أنه واضح لا لبس فيه.
وبهذا يتبين أن معتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي ولا بالجور ولا بالظلم، إلا إذا وجد كفر صريح لا شبهة فيه، مع القدرة والاستطاعة.
ولهذا حصلت مفاسد كثيرة على مر التاريخ من الخروج على ولاة الأمور، والإسلام يراعي المصالح والمفاسد، فالمفاسد التي تترتب على الخروج على ولاة الأمور مفاسد عظيمة لا حصر لها، كإراقة الدماء، وتفرق الناس، واختلاف الكلمة، وتربص الأعداء بهم الدوائر، واختلال الأمن، واختلال المعيشة، واختلال الحياة الاقتصادية والاجتماعية، واختلال التعليم، وغير ذلك من الشرور والفتن، كما نرى في الثورات التي تحصل في أمكنة كثيرة، فيحصل بسببها شرور وفتن.
فالواجب على المسلمين أن يعملوا بإسلامهم، وأن يلزموا طاعة الله وطاعة رسوله، وأن يطعيوا ولاة أمورهم في طاعة الله عز وجل، وأن لا ينزعوا يداً من طاعة، هكذا يعتقد أهل السنة والجماعة.
وفق الله الجميع لطاعته، وصلى الله وسلم على نبينا محم