ومن أدلة الأشاعرة على أن الكلام معنى قائم بالنفس بيت من الشعر منسوب إلى الأخطل، وهم يعتمدون على هذا البيت، وهو قوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً قالوا: وجه الدلالة أن هذا البيت قاله الأخطل، وهو عربي، والقرآن نزل بلغة العرب، وقد أثبت في البيت أن الكلام في الفؤاد، فدل على أن الكلام إنما يكون في النفس، وأما ما يقوله اللسان فهو دليل عليه، ولهذا قال: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً وهذا يدل على أن كلام الله معنى قائم بنفسه، وأما الحروف والأصوات والقرآن الذي بأيدينا فإنما هو دلالة وعبارة تدل على كلام الله وليس هو كلام الله.
وأجاب العلماء عن استدلال الأشاعرة بهذا البيت بأجوبة: الجواب الأول: أن هذا البيت مصنوع مختلق لا يعرف له قائل، فهو منسوب إلى الأخطل ولا يوجد في ديوانه، فكيف تستدلون ببيت من الشعر لا يعرف له قائل، وكثير من العلماء والأدباء أنكروا نسبته إلى الأخطل.
والإنسان إذا أراد أن يستدل فعليه أن يستدل بدليل واضح معروف قائله، فهذا لا يؤمن من أن يكون قد اختلقه واحد من الأشاعرة أو من غيرهم حتى يستدل به على مذهبه.
الثاني: سلمنا جدلاً أن هذا البيت قاله الأخطل، فـ الأخطل واحد من الناس، فهو خبر واحد، ولا يقبل قوله حتى يوافقه أهل اللغة، وإذا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل حتى يصح سنده وتثبت عدالة رواته، ولا يكون شاذاً ولا معلاً؛ فكيف يستدل بقول واحد من الناس يخالفه أهل اللغة جميعاً ولا يوافقونه على هذا القول؟! الثالث: سلمنا أن البيت قاله الأخطل وأنه صحيح، وسلمنا أنه يستدل بقول الواحد، لكن ليس المراد بقوله:(إن الكلام لفي الفؤاد): المعاني العارية عن الحروف والألفاظ، وإنما مراد الشاعر: الكلام الحقيقي الذي له تأثير، فهو الذي يقدره الإنسان في نفسه ويهيئه ويزنه بعقله قبل أن يتلفظ به، وهذا هو الكلام الذي له تأثير، بخلاف الكلام الذي يجري على اللسان من دون ترو وتقدير، فإنه يشبه كلام النائم والهازل، ولهذا روي البيت برواية أصح من هذه الرواية: إن البيان لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً وهذا هو الأصوب، فالبيان يكون في الفؤاد، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما توفي أسرع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة للبيعة، وأسرع إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فأراد عمر أن يتكلم وقال: زَوَّرت -يعني: هيأت- في نفسي كلاماً خشيت ألا يبلغه أبو بكر، فأسكته أبو بكر وتكلم بأبلغ منه، فقال: أتى على ما في نفسي وزيادة.
فالشاهد قول عمر:(وزورت في نفسي كلاماً خشيت ألا يبلغه أبو بكر)، فالكلام المهيأ في النفس ليس كالكلام الذي يجري على اللسان من دون تقدير ومن دون ترو.
الرابع: سلمنا صحة البيت وأنه قول الأخطل، وسلمنا قبول خبر الواحد، وسلمنا أن مراد الشاعر الكلام العاري عن الحروف والألفاظ، لكن الأخطل نصراني، فكيف يستدل بقول نصراني؟! والنصارى قد ضلوا في نفس معنى الكلام، وقالوا: إن عيسى نفس كلمة الله، وإن فيه جزءاً من الله وجزءاً من البشر اتحدا وصارا شيئاً يقال له: المسيح، فالمسلمون يقولون: إن عيسى خلق بكلمة (كن)، لكن النصارى يقولون: عيسى هو نفس الكلمة، فكيف يستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام، ويترك ما يعرف من معنى الكلام من كتاب الله وسنة رسوله ولغة العرب؟! الخامس: سلمنا صحة البيت، وأن الأخطل قاله، وسلمنا قبول خبر الواحد، وسلمنا أن مراده الكلام العاري عن الحروف والألفاظ، وسلمنا الاستدلال بقول النصارى، لكن يلزم منه معنى فاسد، وهو أن يسمى الأخرس متكلماً؛ لقيام الكلام بنفسه وإن لم ينطق به، وتسمية الأخرس متكلماً باطل شرعاً وعقلاً وعرفاً؛ لأنه لا توجد لديه آلة للنطق أصلاً.