[مراتب الخلق في اتباع الشرع]
من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لا يوجب على كل أحد أن يعلم ويؤمن بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام تفصيلاً في كل شيء، فالواجب على الفرد العلم والإيمان بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إجمالاً، وأما العلم التفصيلي فإنه يختلف باختلاف أحوال الناس بحسب قدرتهم، وبحسب ما أعطاهم الله من العقول والأفهام والعلم وسماع النصوص وفهمها، فيجب على من سمع النصوص وفهمها وعلمها ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على العالم ما لا يجب على العامي، ويجب على المحدِّث ما لا يجب على غيره، ويجب على القاضي ما لا يجب على غيره، ويجب على الحاكم ما لا يجب على غيره، فالعلم التفصيلي بالشريعة فرض كفائي على الأمة، ويجب على الأمة أن تعلم ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم على وجه التفصيل، كما أنه يجب عليها أن تتدبر كتاب ربها، وأن تتعقله وتتفهمه، كما يجب عليها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن تنشر الإسلام، فهذا واجب كفائي، فإذا وجد في الأمة حصل المقصود، وإلا أثمت الأمة.
وأما الأفراد فلا يجب عليهم ذلك، وإنما يختلف الوجوب باختلاف أحوال الناس.
وأطوع الناس وأتبعهم وأعرفهم بالله، وأعلمهم بالطريق الموصل إليه هم الأنبياء، والطريق الموصل إليه هو الشريعة، فمن اتبع ما أحله الله، وامتثل أمر الله، واجتنب نهيه، واستقام على دينه؛ فهو أطوع الناس.
وأطوع الناس وأتبعهم هم الأنبياء والرسل، وأطوعهم وأتبعهم أولوا العزم الخمسة، وأطوعهم وأتبعهم الخليلان، وأطوعهما وأتبعهما نبينا محمد عليه وعليهم وعلى سائر المرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ثم أطوع الناس وأتبعهم بعد الأنبياء والرسل الصديقون، وفي مقدمتهم الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه، ثم الشهداء، فقد بذلوا أجسامهم لله عز وجل حتى قتلوا في سبيل الله، فجعل الله سبحانه وتعالى أرواحهم في البرزخ في حواصل طير خضر، كما جاء في الحديث: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسبح في الجنة؛ ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش)، ثم سائر الصالحين من المؤمنين، وهم طبقات: فمنهم السابق بالخيرات، وهو الذي أدى فرائض الله وانتهى عن محارم الله، ثم صار عنده نشاط فسابق إلى الخيرات وفعل النوافل، وترك مع المحارم المكروهات وشيئاً من فضول المباحات، فهؤلاء أفضل الناس بعد الأنبياء وبعد الصديقين والشهداء، وهم السابقون المقربون.
ثم يليهم المقتصدون والأبرار، وهم الذين أدوا الفرائض وانتهوا عن المحارم، لكن لم يكن عندهم نشاط في فعل النوافل المستحبة، وقد يفعلون بعض المكروهات.
وهناك طبقة ثالثة، وهم الظالمون لأنفسهم، وهم المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجبات، أو فعلوا بعض المحرمات، فهؤلاء مؤمنون ظالمون لأنفسهم، لكنهم ما فعلوا الشرك، فهم مؤمنون موحدون قصروا في بعض الواجبات أو فعلوا بعض المحرمات، فهؤلاء ظالمون لأنفسهم، وهم على خطر من العذاب في القبر، وعلى خطر من العذاب في النار، فأمرهم دائر بين السلامة والعذاب، فقد يعفى عنهم، وقد يعذبون، لكن مآلهم ونهايتهم السلامة والاستقرار في الجنة بعد العذاب أو العفو، قال الله تعالى في كتابه العظيم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢]، فهؤلاء كلهم ورثوا الكتاب، وكلهم من المصطفين، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:٣٢]، فهذا الظالم لنفسه هو الذي قصر في بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر:٣٢] وهذا هو الذي أدى الفرائض وانتهى عن المحارم، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:٣٢]، وهذا هو الذي أدى الفرائض وانتهى عن المحارم وفعل النوافل، وترك المكروهات، وشيئاً من فضول المباحات، وهؤلاء كلهم ناجون، وليس بعدهم إلا الكفرة بجميع أقسامهم وأنواعهم، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد ذكر الله تعالى في سورة الواقعة أقسام الناس، فذكر السابقين، والمقتصدين أصحاب اليمين، وأصحاب المشأمة، وهم الكفار بجميع أنواعهم من اليهود والنصارى والوثنيين والمجوس والمنافقين وغيرهم ممن مات على الكفر، فهؤلاء هم أصحاب النار تغشاهم النار وتصلاهم من جميع النواحي نعود بالله، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:٤١] ولا يخرجون منها أبداً.
أما العصاة الموحدون فهم على خطر، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة فشقها نصفين وغرس في كل قبر واحدة، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) فهذان عذبا بسبب فعل بعض المحرمات، والنميمة من كبائر الذنوب، وكذلك عدم الاستنزاه من البول، وفي لفظ: (لا يستبرئ من بوله) وفي لفظ: (لا يستتر من بوله)، وكذلك في يوم القيامة قد ينال شدة الحساب، وقد يدخل النار، وقد يعفو الله عنه، فهو تحت المشيئة، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، فهو تحت مشيئة الله، فقد يعفو الله عنه لتوحيده وإيمانه وإسلامه فيدخل الجنة من أول وهلة، وقد يعذب في النار مدة، ثم إذا طهر فيها أخرج إلى الجنة إما بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين.
وقد تواتر في الأحاديث الصحيحة أنه يدخل النار جملة من أهل التوحيد وأهل الإيمان العصاة، فهذا يدخل النار بعقوقه لوالديه، وهذا بقطيعته للرحم، وهذا لأنه زنى، وهذا لأنه سرق، وهذا لأنه يأكل الربا، وهذا لأنه أكل مال اليتيم، وكل هؤلاء ما استحلوا تلك المعاصي، ولكن فعلوها طاعة للهوى والشيطان، أما من استحل ما هو معلوم من الدين بالضرورة فقد كفر، لكن هؤلاء غلبتهم نفوسهم وأهواؤهم وشهواتهم ففعلوا الحرام فعذبوا.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، فيحد الله له حداً فيخرجهم من النار، وثبت أن الملائكة يشفعون، والأنبياء يشفعون، والشهداء يشفعون، والصالحين يشفعون، وثبت أنه يبقى بقية من العصاة في النار بعد شفاعة الشافعين لا تنالهم الشفاعة، فيخرجهم الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، كما جاء في الحديث: (شفعت الملائكة، وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط) أي: زيادة على التوحيد والإيمان.
وقد ثبت أنهم يخرجون منها قد امتحشوا وصاروا فحماً، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة، ثم إذا خرج عصاة الموحدين ولم يبق أحد منهم في النار أغلقت النار على الكفرة، فلا يخرجون منها أبد الآباد، كما قال الله تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:٢٠] يعني: مطبقة مغلقة، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:٩] فيستقر أهل النار في النار، وهم أهلها من اليهود والنصارى والوثنيين والمجوس والمنافقين، لا يخرجون منها أبد الآباد، أما الموحد العاصي فمثل معصيته كالنجاسة الطارئة التي حصلت، فإذا غسلت النجاسة زالت، فكذلك هؤلاء يطهرون من معاصيهم بالنار، فإذا طهروا خرجوا منها إلى الجنة؛ لأنهم من أهل الجنة.
لكن بعض العصاة قد تطول مدته في النار بسبب عظم الجريمة وعظم المعصية، وقد يعفو الله عنه، فهذا كله من العلم بشئون المعاد، ولا يعرف إلا عن طريق الرسل.