المذهب الثاني: مذهب الفلاسفة: وهو أن كلام الله معنى يفيض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية، أي: ليس فيه حرف ولا صوت، فالاتحادية يقولون: هناك حرف وصوت، لكن كل ما تسمع من الحروف والأصوات فهو كلام الله، أما هؤلاء فيقولون: الكلام معنى لا يسمع، وإنما هو معنى يفيض من العقل الفعال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته النفس، وهذا مذهب الفلاسفة المتأخرين كـ الفارابي وابن سينا، تبعاً لمعلمهم الأول أرسطو، وقد يتبعهم بعض المتصوفة، فإنهم يقولون: الكلام معنى يفيض من العقل الفعال على النفس الفاضلة الزكية، والنفس الفاضلة هي نفوس الأنبياء، فنفوس الأنبياء نفوس شريفة فاضلة زكية صافية، فيحصل لها تصورات وتصديقات بحسب قبولها من هذا المعنى، وتختلف على حسب صفائها واستعدادها ونقائها، فيحصل لها تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته، ومذهبهم هذا في الكلام مبني على مذهبهم في القول بقدم العالم، وأن العالم قديم ليس حادثاً وليس له أول ولا بداية، بل هو قديم بقدم الله، وهذا معناه القول بإنكار وجود الله، فمن قال: إن العالم قديم فقد أنكر وجود الله، فهم يقولون: إن العالم قديم ليس له أول ولا بداية، وأرسطو يقول: لا يثبت وجود الله إلا من كونه مبدأً لهذه الكثرة، فمبدأ هذه الكثرة هو الله وهو علة غائية لحركة الفلك! ويقول: إن العالم لازم لله أزلاً وأبداً لا ينفك عنه، فلم يكن الله خلق الخلق بقدرته ومشيئته، والخلق لازم له كلزوم الضوء للسراج، فهل السراج ينفك عن الضوء؟! وهل له اختيار في الضوء؟! فيقول: إن العالم لازم لله كلزوم الضوء للشمس، لا يستطيع الفكاك عنه! تعالى الله عما يقول.
وأصل هذا المذهب نشأ من عدم الإقرار بالرب الذي عرَّفت به الرسل ودعت إليه، وأنه الخالق، وأنه فوق عباده، وأنه فعال لما يريد، وأنه متكلم سبحانه وتعالى بما يشاء إذا شاء كيف شاء، وهذا أصل البلاء، فهم لا يقرون برب خالق، بر فوق العباد، متكلم، لا يقرون بهذا، فلما لم يقروا بذلك نشأ عن ذلك القول بقدم العالم.
ولما قالوا بقدم العالم قالوا: إن الكلام معنى يفيض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية، وهذا مذهب كفري، وهؤلاء الفلاسفة كفرة لا يؤمنون بالله ولا بالملائكة ولا بالكتب ولا بالرسل ولا باليوم الآخر ولا بالقدر خيره وشره.
والمراد بالفلاسفة عند الإطلاق الفلاسفة المتأخرون أتباع المعلم الأول أرسطو والمعلم الثاني الفارابي والمعلم الثالث ابن سينا.
أما الفلاسفة القدامى من قبل أرسطو فإنهم في الجملة يعظمون الشرائع والإلهيات ويثبتون وجود الرب وعلوه، ويقولون: إن العالم مخلوق لله بمشيئته، ومن أولئك أفلاطون شيخ أرسطو، لكن لما جاء أرسطو خالف شيخه أفلاطون وابتدع القول بقدم العالم، فأول من قال بقدم العالم أرسطو قبحه الله، وكان مشركاً يعبد الأصنام، فهذه بدعة كفرية ناشئة عن مذهب كفري.