للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شبهة المعتزلة في القول بخلق القرآن والرد عليها]

تقول المعتزلة: إن القرآن خلق من المخلوقات، ودليلنا قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢] وكلام الله شيء من الأشياء، فيكون داخلاً في عموم الكل، إذاً: فهو من المخلوقات، وهذه من شبههم العظيمة.

وأجاب أهل الحق عن هذه الشبهة بأجوبة، منها أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق بذاته وصفاته، فليست صفاته منفصلة عنه، وليست صفاته شيئاً آخر، بل هو سبحانه الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق، فلا تدخل الصفات ولا يدخل كلام الله في عموم الكل؛ لأن أسماء الله وصفاته داخلة في مسمى اسمه الخالق، فهو الخالق سبحانه بذاته وصفاته، فلا يدخل الكلام، ولا العلم، ولا القدرة في الشيء المخلوق، بل هو الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق، فقول المعتزلة: إن الصفات نخرجها من اسم الخالق ونجعلها مخلوقة من أبطل الباطل؛ لأن الصفة تابعة للموصوف، والله بذاته وصفاته هو الخالق.

ومما يدل على تعسف المعتزلة وانحرافهم أنهم أخرجوا من هذا العموم أفعال العباد، فقالوا: ليست مخلوقة لله، وأدخلوا في هذا العموم ما لا يصح دخوله، مثل كلام الله، وقالوا: نحن نخرج أفعال العباد من عموم الآية؛ لأنها لم يخلقها الله.

فنقول لهم: كيف تدخلون كلام الله الذي هو صفة من صفاته في هذا العموم مع أن كلامه داخل في مسمى اسمه وتخرجون أفعال العباد من هذا العموم، وتقولون: إنها ليست مخلوقة؟! هذا يدل على تعسفكم؛ لأن أفعال العباد داخلة في هذا العموم، ولا دليل معتبر على إخراجها، وصفات الله ليست داخلة؛ لأنه بذاته وصفاته هو الخالق.

ثانياً: أن كلام الله صفة من صفاته به تكون المخلوقات، أي: يكون الخلق بالكلام، كما قال الله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، وقد فرق الله بين الخلق والأمر في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، فعلمنا أنهما شيئان، ولو كان الكلام مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بكلام آخر، والآخر بآخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية، فيفضي هذا إلى التسلسل، وهو باطل، فثبت بهذا أن كلام الله صفة من صفاته به تكون المخلوقات، فلا يكون مخلوقاً، وإنما يخلق الله بالكلام، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢].

ثالثاً: يقال لهم: إن عموم الكل في كل شيء يختلف باختلاف مواضعه، فأحياناً يخرج من هذا العموم ما دل عليه الدليل، ومن ذلك أن الله تعالى قال في الريح التي أهلك الله بها عاداً: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:٢٥]، ثم قال: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:٢٥] فخرجت المساكن والأرض والسماء من هذا العموم، والمعنى -والله أعلم- أن الريح التي أرسلها الله على عاد تدمر كل شيء يستحق التدمير، ولهذا فإن المساكن ما دمرت.

وكذلك قول الله تعالى حكاية عن الهدهد في ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:٢٣] والمعنى: أوتيت من كل شيء يصلح للملوك، أو يكون للملوك، وهناك أشياء لم تؤتها، فكذلك عموم: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢]، فالمراد: أن الله خالق كل شيء مخلوق، أما صفات الله فليست مخلوقة، فلا تدخل في هذا العموم.

رابعاً: يقال للمعتزلة: إن الله سبحانه وتعالى توعد من قال: إن القرآن كلام البشر بأن يصليه سقر، كما قال سبحانه في الوليد بن المغيرة: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:١٨ - ٢٥]، ثم قال الله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:٢٦]، والمعتزلة يقولون: إن كلام الله مخلوق، وأن الله خلقه، فهو -إذاً- قول البشر، وليس كلام الله، فهم إذاً داخلون في هذا الوعيد؛ لأن الله توعد من قال: إنه قول البشر بأن يصليه سقر، والمعتزلة لا يقولون: إنه قول الله ولا كلام الله، بل يقولون: إنه قول البشر خلقه الله فيهم، فلهم نصيب من هذا الوعيد.

فالمعتزلة يُدخلون في الأصل الأول الذي أصلوه -وهو التوحيد- القول بأن القرآن مخلوق، والقول بنفي الصفات.

<<  <  ج: ص:  >  >>