الحقائق لها وجود لفظي، ووجود عيني، ووجود ذهني، ووجود رسمي، فالحقائق تعلم ثم تذكر ثم ترسم، فلها أربعة أنواع من الوجودات: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في الرسم.
فالوجود في الأعيان: كالسماء تراها عيناً قائمة، فهذا وجود عين.
والوجود في الأذهان: بأن تتصورها في ذهنك.
والوجود في اللفظ: حينما تقول: السماء.
والوجود في الرسم: حينما تكتب: (السماء).
فهذه أنواع الوجود الأربعة.
وقد تتداخل أحيانا هذه الأنواع من الوجود ويعسر التمييز بينها، وليس بين وجودها في الرسم ووجودها في الكلام واسطة؛ لأن مرتبة الكلام تليها مرتبة الرسم، فوجود الكلام العيني واللفظي يتساوى ويعسر التمييز بينهما، والفرق بين كون كلام الله في زبر الأولين، أو في رق منشور، أو في لوح محفوظ، أو في كتاب مكنون واضح، فإن معنى قوله سبحانه عن القرآن:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:١٩٦]، يعني: ذكره، فذكر القرآن والإخبار عنه ووصفه موجود في زبر الأولين، أي: في كتبهم؛ لأن القرآن لم ينزل على الأولين كموسى وعيسى، وإنما نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله:{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}[الواقعة:٧٨]، وقوله:{فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج:٢٢]، وقوله:{فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ}[الطور:٣]، فيعني أنه مكتوب في رق منشور وفي لوح محفوظ.
فهذه الأنواع من الوجود لا بد لطالب العلم من أن يعلمها جيداً، وأن يعلم أن كلام الله موجود في المصاحف حقيقة، وهو في الصدور حقيقة، ويقرؤه القارئ حقيقة، ولهذا قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله -وهو من أئمة أهل السنة والجماعة- في كتابه الذي سماه (الفقه الأكبر) وما يتعلق بأصول الدين، قال: والقرآن في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق والقرآن غير مخلوق.
وما ذكر الله تعالى في القرآن عن موسى عليه الصلاة والسلام وعن فرعون وعن إبليس فذلك كلام الله أخبرنا به، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، وكلام الله ليس ككلامنا، وسمع موسى عليه الصلاة والسلام كلام الله، فلما كلمه كلمه بكلامه الذي هو من صفاته ولم يزل به قائماً، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، فهو يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا.
انتهى كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهو كلام عظيم.