[حقيقة السحر وخياله]
واختلف العلماء هل السحر له حقيقة، أو كله خيال؟ فذهب بعض العلماء إلى أنه تخييل، وينسب هذا إلى قوم من المعتزلة، وإلى بعض الأحناف.
والصواب أن السحر نوعان: نوع حق، أي: له حقيقة، والنوع الثاني: تخييل، والدليل على أن منه ما هو خيال قول الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:٦٦] والضمير يعود إلى موسى عليه الصلاة والسلام في قصة السحرة لما وضعوا الحبال والعصي، ووضعوا عليها الزئبق، فصارت تتلون في الشمس، فموسى عليه الصلاة والسلام -كما قال تعالى عنه- {أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} [طه:٦٧] وخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فقال الله له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:٦٨ - ٦٩] فألقى موسى العصا، فابتلعت جميع ما في الوادي من العصي والحبال التي وضعوها.
فهذه عصي وحبال وضعوها، ووضعوا عليها الزئبق فجعلت تتلون، فخيلوا للناس أنها حيات وعقارب، ولهذا قال الله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:٦٦].
وهذا النوع من الخيال يسحر الساحر به أعين الناس فقط، ويكون الشيء المرئي ليس على حقيقته.
النوع الثاني: السحر الحقيقي، أي: له حقيقة تؤثر في القلوب والأبدان بالمرض والقتل وبتغيير العقل، ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:١ - ٥].
فالنفاثات: السواحر اللاتي يعقدن العقد، وينفثن في عقدهن، فلولا أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه، وبما أن الخيال لا يؤثر إلا في العيون فقط لم يأمر الله بالاستعاذة منه، فلما أمر الله بالاستعاذة من السحر؛ دل على أن له حقيقة، فلو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:٤]، وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير، وهو أن السحر نوعان: نوع له حقيقة، يؤثر في القلوب والأبدان ويمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ونوع هو خيال.
وقد ثبت في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، فكان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله)، وقد أنكر بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وظن أن هذا يقدح في شخصه عليه الصلاة والسلام، وهذا غلط؛ لأن هذا ثابت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر في مشط ومشاطة، في وعاء طلع النخل، وجعل في صخرة أسفل بئر ذروان.
والمشط معروف، والمشاطة: ما يحصل من الشعر حينما يمشط الشعر بالمشط، فيسقط بعض الشعر، وهذه تسمى مشاطة، وقد جعلهما الساحر في جف طلعة ذكر، وهو وعاء الطلع، ويسمى حبوب اللقاح الذي يلقح به النخلة.
فأخذ هذا الوعاء -وعاء طلع الذكر- وجعله في مشط ومشاطة، وجعله في صخرة تحت بئر ذروان، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه شيء في جسده، وصار يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله.
ثم جاءه ملكان على صورة رجلين في رؤيا -ورؤيا الأنبياء وحي- فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما بال الرجل؟ فقال: مطبوب.
يعني: مسحور، والسحر يسمى طباً تفاؤلاً بالسلامة، كما يسمى اللديغ سليماً، تفاؤلاً له بالسلامة، فكذلك المسحور يسمونه مطبوباً تفاؤلاً له بالطيب والسلامة.
قال: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، فسأله: في أي؟ قال: في مشط ومشاطة، في جف طلعة ذكر، في بئر ذروان.
فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يستخرج السحر، فذهب إلى تلك البئر، واستخرج السحر، ثم أمر بالبئر فدفنت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (يا عائشة! والله لكأن ماء هذه البئر نقاعة الحناء، وكأن نخلها رءوس الشياطين) فقالت له عائشة: أفلا تنشرت، فقال النبي: (أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن أثير على الناس شراً) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وجاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استخرج السحر، وفي بعضها أنه لم يستخرجه، وجمع العلماء بينهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استخرج وعاء طلع النخل، ثم أزيل السحر؛ ولكنه لم يستخرج ما بداخله من المشط والمشاطة.
ثم أمر بهذه البئر فدفنت، ولم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم اليهودي.
وهذا السحر الذي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدح في عصمته، فلم يؤثر في عصمته ولا في عقله عليه الصلاة والسلام، ولا في تبليغه الرسالة، وإنما في شيء يتعلق بأمور الدنيا، ويتعلق بجسده، فكان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، لكنه لم يتعلق بعقله، ولا بتبليغه الرسالة، ولا بعصمته عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا الذي أصابه من السحر نوع من المرض كسائر الأمراض، لا يقدح في عصمته عليه الصلاة والسلام كما يظن ذلك بعض الناس، فالصواب أن ذلك لا يقدح في عصمته عليه الصلاة والسلام، وليس له تأثير على تبليغ الرسالة، ولا على عقله ولا فكره عليه الصلاة والسلام.