والفناء الثالث هو فناء مراد السوى، أي: الفناء عن إرادة ما سواه، فيكون فانياً بمراد محبوبه منه عن مراده هو فضلاً عن إرادة غيره، قد اتحد مراده بمراد ربه، أي: المراد الديني الشرعي لا القدري الكوني، وهذا فناء خواص الأولياء والمقربين.
ومن تحقيق هذا الفناء ألا يحب إلا في الله، ولا يبغض إلا في الله، ولا يوالي إلا في الله، ولا يعادي إلا في الله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يرجو إلا الله، ولا يستعيذ إلا بالله، فيكون أمره كله باطنه وظاهره كله لله.
فهذا فناء بمراد ربه عن مراده هو، فالله تعالى أراد منك أن تصرف له العبادة فأنت تقدم حقه، وأراد منك أداء الفرائض فتقدم حقه، وإذا نازعتك نفسك تقدم حق الله، فتفنى وتتناسى حقك من أجل تقديم حق الله، أراد منك ترك المحرمات فتتركها ولو نازعتك نفسك؛ لأنك فنيت بمراد ربك عن مراد نفسك، فتلغي مراد نفسك، بل ومراد الخلائق كلها، ولا تنظر إليه من أجل تقديم مراد الله وما يحبه الله من أداء الفرائض، والابتعاد عن المحارم، والاستقامة على دين الله.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن كان هناك اتحاد في العقل صحيح فهو اتحاد المرادين هذين، اتحد مراد العبد بمراد ربه، فكل شيء يريده الله فالعبد المؤمن يريده، وكل شيء يكرهه الله فالعبد المؤمن يكرهه، وكل شيء يحبه الله فالمؤمن يحبه، وهكذا.
فيكون موافقاً لله فيما يحبه وفيما يكرهه وفيما يخافه، فيقدم مراضي الله ومحابه، ويبتعد عن مساخطه ومناهيه مهما كلفه الأمر، ولا ينظر إلى مراده هو ومطلوبه، بل يلغي مراده لمراد الله، ويلغي محبوبه لما يحبه الله، بمعنى: أنه يقدم المراد الديني الشرعي وما يحبه الله على ما تحبه نفسه، فضلاً عما يحبه غيره من الناس، فيكون دينه كله لله باطناً وظاهراً.