قلت: أجيب عنه بأجوبة: أحدهما: أن حديث سليك هذا محمول على ما قبل النهي عن الكلام في الخطبة، وكان الكلام مباحا في الصلاة والخطبة أيضا. والثاني: أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان إماما وخطيبا، فلا بأس له أن يتكلم، لأنه يخطب والخطبة من أولها إلى آخرها كلام. الثالث: أنه كان قبل الأمر بالاستماع والإنصات المأمورين.
الرابع: يحتمل أنه كان أمره بذلك بعد قطع الخطبة لإرادة تعليمه الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف خطبته بعد ذلك.
فإن قلت: روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان إذا نزل عن المنبر يسأل الناس عن حوائجهم وعن أسعار السوق ثم يصلي» وعن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا إذا صعدا المنبر يسألان الناس عن أسعار السوق.
قلت: حديث أنس كان في ابتداء الإسلام حين كان الكلام مباحا في الصلاة، وأما حديث عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فمعارض بحديث ابن عمر وابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا نمير عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما كانا يكرهان الكلام والصلاة يوم الجمعة بعد خروج الإمام، وقال ابن عبد البر: كان ابن عباس وابن عمر يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام، ولا مخالف لهما.
فإن قلت: جاء في الحديث أن الدعاء يستجاب وقت الإقامة في يوم الجمعة، فكيف يسكت عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قلت: يقرأ الدعاء بقلبه لا بلسانه، ثم إذا اشتغل الإمام بالخطبة ينبغي للمستمع أن يجتنب بما يجتنب في الصلاة لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}[الأعراف: ٢٠٤][الأعراف، الآية: ٢٠٤] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» وهذا الحديث رواه أبو هريرة وأخرجه عنه الأئمة الستة ما خلا الترمذي، فإذا كان كذلك يكره له رد السلام وتشميت العاطس، إلا في القول الجديد للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يرد ويشمت، قال شيخ الإسلام: والأصح أنه يشمت، والاستماع من أول الخطبة إلى آخرها وإن كان فيها ذكر الولاة والديوان من الإمام.
وفي "المجتبى": قيل: وجوب الاستماع مخصوص بزمان الوحي، وقيل: في الخطبة الأولى دون الثانية لما فيها من مدح الظلمة. وعن أبي حنيفة: إذا سلم عليه يرد بقلبه، وعن أبي يوسف: يرد السلام ويشمت العاطس فيها، وعن محمد: يرد ويشمت بعد الخطبة، وقيل: الإشارة بيده ورأسه عند رؤية المنكر يكره، والأصح أنه لا بأس به، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذكره- عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قلبه.
واختلف المتأخرون فيمن كان بعيدا لا يسمع الخطبة، فقال محمد بن سلمة: المختار السكوت